المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

الدعوى رقم 84 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم

 

القيود الاستثنائية على حرية التعاقد

إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية، لا يجوز اعتبارها حلاً دائماً ونهائياً لمشكلاتها، فلا يتحول المشرع عنها، بل عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغي أن يقوم في شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر، فلا يختل التضامن بينهما اجتماعيا، ولا يكون صراعهما بديلا عن التعاون بينهما، بل تتوافق مصالحهما اقتصاديا، وعلى تقدير أن الأصل في عقود القانون الخاص هو انبناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها، إلا بقدر الضرورة التي يتعين أن تخلى مكانها - عند فواتها - لحرية التعاقد.

 

شرعية الجرائم والعقوبات

حيث إن استقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في مفاهيم الدول المتحضرة، دعا إلى توكيده بينها. ومن ثم وجد صداه في عديد من المواثيق الدولية، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان. وتردد هذا المبدأ كذلك في دساتير عديدة، يندرج تحتها ما تنص عليه المادة 66 من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذي ينص عليها، وما تقرره كذلك المادة 187 من هذا الدستور التي تقضي بأن الأصل في أحكام القوانين هو سريانها اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية في مجموعهم.

وحيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وإن اتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنيانا لإقراره وتوكيده، إلا أن هذه الحرية ذاتها هي التي تقيد من محتواه، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازما إلا بالقدر وفي الحدود التي تكفل صونها. ولا يجوز بالتالي إعمال نصوص عقابية يسئ تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم، ولا تفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها، ولا مد نطاق التجريم - وبطريق القياس - إلى أفعال لم يؤثمها المشرع، بل يتعين دوما - وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير - أن يرجح القاضي من بينها ما يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية في إطار علاقة منطقية يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع، سواء في ذلك تلك التي أعلنها، أو التي يمكن افتراضها عقلا.

وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التي توخاها: أولاهما: أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها. وهي بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيا لها، بل اتساقا معها ونزولا عليها. ثانيتهما: ومفترضها أن المرحلة الزمنية التي تقع بين دخول القانون الجنائي حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون، إنما تمثل الفترة التي كان يحيا خلالها، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها فلا يكون رجعيا، على أن يكون مفهوما أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يُفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائي الأسوأ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائي سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التي تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسا، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم في مجال تطبيقها بالنسبة إليه.

 

الأثر الرجعي للقوانين الجزائية

حيث إن ما تقدم مؤداه، أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية، يفترض أن يكون تطبيقها في شأن المتهم مسيئا إليه، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانوني في مواجهة سلطة الاتهام، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوما. ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معا وتتكاملان: أولاهما: أن مجال سريان القانون الجنائي ينحصر أصلاً في الأفعال اللاحقة لنفاذه، فلا يكون رجعيا كلما كان أشد وقعا على المتهم. وثانيتهما: سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً. وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه، أن ثانيتهما لا تعتبر استثناء من أولاهما، ولا هي قيد عليها، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها. وكلتاهما معا تعتبران امتدادا لازما لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات، ولهما معا القيمة الدستورية ذاتها.

 

الشرعية الدستورية للنصوص العقابية

حيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم علائق الأفراد بمجتمعهم وفيما بين بعضهم البعض، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم الأفعال التي يأتونها أو يدعونها بما يناقض أوامره أو نواهيه وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور.

وحيث إن هذا القضاء - وباعتباره معيارا للشرعية الدستورية للنصوص العقابية - مردد كذلك فيما بين الأمم المتحضرة، ومن بينها فرنسا التي أقر مجلسها الدستوري مبدأين في هذا الشأن.

أولهما: أنه كلما نص القانون الجديد على عقوبة أقل قسوة من تلك التي قررها القديم، تعين أن تعامل النصوص القانونية التي تتغيا الحد من آثار تطبيق القانون الجديد في شأن الجرائم التي تم ارتكابها قبل نفاذه، والتي لم يصدر فيها بعد حكم حائز لقوة الأمر المقضى، باعتبارها متضمنة إخلالا بالقاعدة التي صاغتها المادة 8 من إعلان 1789 في شأن حقوق الإنسان والمواطن، والتي لا يجوز للمشرع على ضوئها أن يقرر للأفعال التي يؤثمها، غير عقوباتها التي تضبطها الضرورة بوضوح، فلا تجاوز متطلباتها ذلك أن عدم تطبيق القانون الجديد على الجرائم التي ارتكبها جناتها في ظل القانون القديم، مؤداه أن ينطق القاضي بالعقوبات التي قررها هذا القانون، والتي لم يعد لها - في تقدير السلطة التشريعية التي أنشأتها - من ضرورة. ثانيهما: أن تأثيم المشرع لأفعال بذواتها، لا ينفصل عن عقوباتها التي يجب أن يكون فرضها مرتبطا بمشروعيتها، وبضرورتها، وبامتناع رجعية النصوص العقابية التي قررتها كلما كان مضمونها أكثر قسوة، ودون ما إخلال بحقوق الدفاع التي تقارنها. ولا تتعلق هذه الضوابط جميعها بالعقوبات التي توقعها السلطة القضائية فقط، ولكنها تمتد لكل جزاء يتمحض عقابا، ولو كان المشرع قد عهد بالنطق به إلى جهة غير قضائية.

 

الأخذ بالقانون الأصلح للمتهم

حيث إن قضاء هذه المحكمة في شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع الفعل - وقبل الفصل فيه نهائيا - مؤداه أن سريان القانون اللاحق في شأن الأفعال التي أثمها قانون سابق، وإن اتخذ من نص المادة 5 من قانون العقوبات موطئا وسندا، إلا أن صون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور بنص المادة 41 منه، هي التي تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها. ذلك أن ما يعتبر قانونا أصلح للمتهم، وإن كان لا يندرج تحت القوانين التفسيرية التي تندمج أحكامها في القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه باعتبارها جزءا منه يبلور إرادة المشرع التي قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التي أثمها القانون القديم، إنما ينشئ للمتهم مركزا قانونيا جديدا، ويقوض - من خلال رد هذه الأفعال إلى دائرة المشروعية - مركزا سابقا. ومن ثم يحل القانون الجديد - وقد صار أكثر رفقا بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقا طبيعيا لا يمس - محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل ينحي ألحقهما أسبقهما.

وغدا لازما بالتالي - وفي مجال إعمال القوانين الجنائية الموضوعية الأكثر رفقا بالمتهم - توكيد أن صون الحرية الشخصية من جهة، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى، مصلحتان متوازيتان، فلا تتهادمان. وصار أمراً مقضيا - وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم - أن ترد لأصحابها تلك الحرية التي كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه، إعلاء للقيم التي انحاز إليها القانون الجديد، وعلى تقدير أن صونها لا يخل بالنظام العام باعتباره مفهوما مرنا متطورا على ضوء مقاييس العقل الجمعي التي لا ينفصل القانون الأصلح عنها، بل يوافقها ويعمل على ضوئها، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره إلا تثبيتا للنظام العام بما يحول دون انفراط عقده، بعد أن صار هذا القانون أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم.

وحيث إن القوانين الجزائية التي نقارنها ببعض تحديدا لأصلحها للمتهم، تفترض اتفاقها جميعا مع الدستور، وتزاحمها على محل واحد، وتفاوتها فيما بينها في عقوباتها، فلا نغلب من صور الجزاء التي تتعامد على المحل الواحد، إلا تلك التي تكون في محتواها أو شرائطها أو مبلغها أقل بأسا من غيرها، وأهون أثراً.

 

 

الدعوى رقم 84 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

نص الحكم

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 15 مارس سنة 1997م الموافق 6 ذو القعدة سنة 1417هـ.

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض.

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 84 لسنة 17 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيدة/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد الأستاذ/ النائب العام

3- السيد الأستاذ/ رئيس مجلس الوزراء

4- السيد الأستاذ/ رئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب

5- السيدة/ ...

الإجراءات

في الثامن عشر من شهر ديسمبر سنة 1995، أودعت المدعية قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة، طالبة الحكم بعدم دستورية المادتين 26 و77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وكذلك المادتين 6 و23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها أصلياً عدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن السيدة ... - المدعى عليها الأخيرة - كانت قد استأجرت من المدعية شقة بالعقار رقم 39 شارع مكة قسم الهرم، ثم نسبت إلى المدعية تقاضيها منها مبلغ 14.000 جنيه خارج نطاق عقد الإيجار [خلو رجل]، فأقيمت الدعوى رقم 6575 لسنة 1994 جنح الهرم التي قضي فيها ابتدائياً بحبس المدعية ستة أشهر وكفالة خمسين جنيهاً لوقف التنفيذ، وتغريمها مبلغ 32.640 جنيه، ومثلها لصالح صندوق الإسكان الاقتصادي بمحافظة الجيزة، ورد مبلغ 61.023 جنيه للمجني عليها، فطعنت المحكوم عليها في هذا الحكم استئنافياً تحت رقم 5585 لسنة 1995 مستأنف الهرم حيث قضي غيابياً بتأييد الحكم المطعون فيه. وقد عارضت المحكوم ضدها في هذا الحكم، ثم دفعت أثناء نظر معارضتها بعدم دستورية نص المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، وخولتها اللجوء إلى طريق الطعن بعدم الدستورية، فقد أقامت دعواها الماثلة.

وحيث إن المدعية تطلب الحكم بعدم دستورية نصوص المواد الآتية:

أولاً: القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

مادة 26: لا يجوز للمؤجر، مالكا كان أو مستأجرا بالذات أو بالوساطة، اقتضاء أي مقابل أو أتعاب بسبب تحرير العقد أو أي مبلغ إضافي خارج نطاق عقد الإيجار زيادة على التأمين والأجرة المنصوص عليها في العقد.

كما لا يجوز بأية صورة من الصور للمؤجر أن يتقاضى أي مقدم إيجار.

مادة 77: يعاقب كل من يخالف حكم المادة 26 من هذا القانون، سواء كان مؤجراً أو مستأجراً أو وسيطا بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة تعادل مثلي المبلغ الذي تقاضاه بالمخالفة لأحكام هذه المادة ويعفى من العقوبة كل من المستأجر والوسيط إذا أبلغ أو بادر بالاعتراف بالجريمة.

وفي جميع الأحوال يجب الحكم على المخالف بأن يرد إلى صاحب الشأن ما تقاضاه على خلاف أحكام المادة المشار إليها.

ثانياً: القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

مادة 6: يجوز لمالك المبنى المنشأ اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون، أن يتقاضى من المستأجر مقدم إيجار لا يجاوز أجرة سنتين، وذلك بالشروط الآتية:

1- أن تكون الأعمال الأساسية للبناء قد تمت ولم يتبق إلا مرحلة التشطيب.

2- أن يتم الاتفاق كتابة على مقدار مقدم الإيجار وكيفية خصمه من الأجرة المستحقة في مدة لا تجاوز ضعف المدة المدفوع عنها المقدم وموعد إتمام البناء وتسليم الوحدة صالحة للاستعمال.

ويصدر قرار من الوزير المختص بالإسكان بتنظيم تقاضي مقدم الإيجار، والحد الأقصى لمقدار المقدم بالنسبة لكل مستوى من مستويات البناء.

ولا يسري حكم الفقرة الأخيرة من المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 على مقدم الإيجار الذي يتقاضاه المالك وفقا لأحكام هذه المادة

مادة 23: يعاقب بعقوبة جريمة النصب المنصوص عليها في قانون العقوبات، المالك الذي يتقاضى بأية صورة من الصور، بذاته أو بالوساطة أكثر من مقدم عن ذات الوحدة أو يؤجرها لأكثر من مستأجر، أو يبيعها لغير من تعاقد معه على شرائها، ويبطل كل تصرف بالبيع لاحق لهذا التاريخ، ولو كان مسجلاً.

ويعاقب بذات العقوبة المالك الذي يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة في الموعد المحدد، فضلاً عن إلزامه بأن يؤدي إلى الطرف الآخر مثلي مقدار المقدم، وذلك دون إخلال بالتعاقد، وبحق المستأجر في استكمال الأعمال الناقصة وفقا لحكم الفقرة الأخيرة من المادة 13 من القانون رقم 49 لسنة 1977 ويكون ممثل الشخص الاعتباري مسئولا عما يقع منه من مخالفات لأحكام هذه المادة.

وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية. وهو كذلك يقيد تدخلها في هذه الخصومة، فلا تفصل في غير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي. ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين.

أولهما: أن يقيم المدعي - وفي حدود الصفة التي اختصم بها النص المطعون فيه - الدليل على أن ضررا واقعيا - اقتصاديا أو غيره - قد لحق به، سواء أكان مهدداً بهذا الضرر، أم كان قد وقع فعلا. ويتعين دوما أن يكون الضرر المدعى به مباشرا، منفصلا عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلا بالعناصر التي يقوم عليها، ممكنا تصوره ومواجهته بالترضية القضائية، تسوية لآثاره.

ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائدا إلى النص المطعون فيه، وليس ضررا متوهما أو منتحلا أو مجهلا، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلا على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعي أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها.

وحيث إن نطاق الدعوى الدستورية - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - وإن تحدد أصلا بالنصوص القانونية التي تعلق بها الدفع بعدم الدستورية المثار أمام محكمة الموضوع، إلا أن هذا النطاق يتسع كذلك لتلك النصوص التي أضير المدعي من جراء تطبيقها عليه - ولو لم يتضمنها هذا الدفع - إذا كان فصلها عن النصوص التي اشتمل الدفع عليها متعذرا، وكان ضمها إليها كافلا الأغراض التي توخاها المدعي بدعواه الدستورية، فلا تحمل إلا على مقاصده، ولا تتحقق مصلحته الشخصية والمباشرة بعيدا عنها.

وحيث إن المدعية كانت متهمة جنائياً في جريمة تقاضي مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار [خلو رجل]؛ وكانت المادتان 26 و77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، قد نظمتا هذه الجريمة ذاتها: أولاهما بحظرها تقاضي هذا الخلو، وثانيتهما بتقريرها لجزاء جنائي على مخالفة هذا الحظر، فإن التنظيم التشريعي لهذه الجريمة - وباعتبارها تمثل مبالغ تقاضاها المؤجر خارج نطاق عقد الإيجار - يشتمل على هذين الأمرين معا. لا ينال من ذلك أن يكون الدفع المثار من المدعية أمام محكمة الموضوع، قد اقتصر على نص المادة 26 من هذا القانون، ذلك أن الاتهام تعلق باقتضائها لخلو الرجل، وغايتها من الطعن بعدم دستورية مواده، ألا تلاحقها سلطة الاتهام بعقوبة هذه الجريمة المنصوص عليها في المادة 77 من هذا القانون، ومن ثم تعتبر مادتاه 26 و77، محددتين لنطاق دعواها الدستورية، ومرتبطتين بالنزاع الموضوعي.

ولا شأن لدعواها هذه - وبالتالي - بجريمة تقاضي المؤجر مقدم إيجار لأكثر من سنتين المنصوص عليها في المادتين 6 و23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

وحيث إن المدعية تنعى على النصوص المطعون عليها، مخالفتها لمبدأ أن العقد شريعة المتعاقدين، وخروجها على الأحكام المنصوص عليها في المواد 34 و35 و36 من الدستور التي كفل بها صون الملكية الخاصة.

وحيث إن اقتضاء المؤجر لخلو رجل، ظل معاقبا عليه بمقتضى المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 والمادة 24 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليهما، أولاهما بالعقوبة التي فرضتها على اقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار زيادة على التأمين والأجرة المنصوص عليها في العقد، وثانيتهما بما نصت عليه من أنه "فيما عدا العقوبة المقررة لجريمة خلو الرجل، تلغى جميع العقوبات المقيدة للحرية المنصوص عليها في القوانين المنظمة لتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وذلك دون إخلال بأحكام المادة السابقة".

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القيود الاستثنائية التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية، لا يجوز اعتبارها حلاً دائماً ونهائياً لمشكلاتها، فلا يتحول المشرع عنها، بل عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغي أن يقوم في شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر، فلا يختل التضامن بينهما اجتماعيا، ولا يكون صراعهما بديلا عن التعاون بينهما، بل تتوافق مصالحهما اقتصاديا، وعلى تقدير أن الأصل في عقود القانون الخاص هو انبناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها، إلا بقدر الضرورة التي يتعين أن تخلى مكانها - عند فواتها - لحرية التعاقد.

وحيث إنه استصحابا لحرية التعاقد التي تعتبر أصلاً يهيمن على عقود القانون الخاص، وضماناً لئلا يظل شاغل العين المؤجرة باقيا فيها بعد انتهاء مدة إجارتها، وإلا كان غاصباً لها، أصدر المشرع القانون رقم 4 لسنة 1996 ليعيد العلائق الإيجارية - في الأماكن التي يشملها - إلى الأصل فيها، وذلك بما نصت عليه مادته الأولى من عدم سريان أحكام القانونين رقمي 49 لسنة 1977، 136 لسنة 1981 المشار إليهما، وكذلك القوانين الخاصة بإيجار الأماكن الصادرة قبلهما، في شأن الأماكن التي لم يسبق تأجيرها، ولا الأماكن التي انتهت عقود إيجارها قبل العمل بهذا القانون، أو انتهت بعده دون أن يكون لأحد حق البقاء فيها قانوناً؛ وكان هذا القانون قد ألغى كذلك بمادته الثانية كل النصوص القانونية المعمول بها قبل نفاذه، بقدر تعارضها مع أحكامه؛ فإنه بذلك يكون ناسخاً لجريمة خلو الرجل التي قررتها القوانين السابقة عليه، وهي جريمة ظل وجودها مرتبطاً بالقوانين الاستثنائية التي أحاط بها المشرع العلائق الإيجارية، مخالفا في ذلك قواعد القانون المدني التي لا مكان فيها لجريمة اقتضاء مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار.

وحيث إن استقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في مفاهيم الدول المتحضرة، دعا إلى توكيده بينها. ومن ثم وجد صداه في عديد من المواثيق الدولية، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان. وتردد هذا المبدأ كذلك في دساتير عديدة، يندرج تحتها ما تنص عليه المادة 66 من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذي ينص عليها، وما تقرره كذلك المادة 187 من هذا الدستور التي تقضي بأن الأصل في أحكام القوانين هو سريانها اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية في مجموعهم.

وحيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وإن اتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنيانا لإقراره وتوكيده، إلا أن هذه الحرية ذاتها هي التي تقيد من محتواه، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازما إلا بالقدر وفي الحدود التي تكفل صونها In Favorem. ولا يجوز بالتالي إعمال نصوص عقابية يسئ تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم، ولا تفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها، ولا مد نطاق التجريم - وبطريق القياس - إلى أفعال لم يؤثمها المشرع، بل يتعين دوما - وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير - أن يرجح القاضي من بينها ما يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية في إطار علاقة منطقية  La ratio Legis يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع، سواء في ذلك تلك التي أعلنها، أو التي يمكن افتراضها عقلا.

وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التي توخاها: أولاهما: أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها. وهي بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيا لها، بل اتساقا معها ونزولا عليها. ثانيتهما: ومفترضها أن المرحلة الزمنية التي تقع بين دخول القانون الجنائي حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون، إنما تمثل الفترة التي كان يحيا خلالها، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها La loi préalable  فلا يكون رجعيا، على أن يكون مفهوما أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يُفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائي الأسوأ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائي سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التي تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسا، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم في مجال تطبيقها بالنسبة إليه.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية، يفترض أن يكون تطبيقها في شأن المتهم مسيئا إليه، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانوني في مواجهة سلطة الاتهام، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوما. ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معا وتتكاملان: أولاهما: أن مجال سريان القانون الجنائي ينحصر أصلاً في الأفعال اللاحقة لنفاذه، فلا يكون رجعيا كلما كان أشد وقعا على المتهم. وثانيتهما: سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً. وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه، أن ثانيتهما لا تعتبر استثناء من أولاهما، ولا هي قيد عليها، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها. وكلتاهما معا تعتبران امتدادا لازما لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات Le prolongement nécessaire، ولهما معا القيمة الدستورية ذاتها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم علائق الأفراد بمجتمعهم وفيما بين بعضهم البعض، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم الأفعال التي يأتونها أو يدعونها بما يناقض أوامره أو نواهيه وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور.

وحيث إن هذا القضاء - وباعتباره معيارا للشرعية الدستورية للنصوص العقابية - مردد كذلك فيما بين الأمم المتحضرة، ومن بينها فرنسا التي أقر مجلسها الدستوري مبدأين في هذا الشأن.

أولهما: أنه كلما نص القانون الجديد على عقوبة أقل قسوة من تلك التي قررها القديم، تعين أن تعامل النصوص القانونية التي تتغيا الحد من آثار تطبيق القانون الجديد في شأن الجرائم التي تم ارتكابها قبل نفاذه، والتي لم يصدر فيها بعد حكم حائز لقوة الأمر المقضى، باعتبارها متضمنة إخلالا بالقاعدة التي صاغتها المادة 8 من إعلان 1789 في شأن حقوق الإنسان والمواطن، والتي لا يجوز للمشرع على ضوئها أن يقرر للأفعال التي يؤثمها، غير عقوباتها التي تضبطها الضرورة بوضوح، فلا تجاوز متطلباتها La loi ne doit établir que des peines strictement et évidemment nécessaires ذلك أن عدم تطبيق القانون الجديد على الجرائم التي ارتكبها جناتها في ظل القانون القديم، مؤداه أن ينطق القاضي بالعقوبات التي قررها هذا القانون، والتي لم يعد لها - في تقدير السلطة التشريعية التي أنشأتها - من ضرورة (DC,19 et 20 janvier 1981, cons. 75, Rec. p 15 80 - 127)  ثانيهما: أن تأثيم المشرع لأفعال بذواتها، لا ينفصل عن عقوباتها التي يجب أن يكون فرضها مرتبطا بمشروعيتها، وبضرورتها، وبامتناع رجعية النصوص العقابية التي قررتها كلما كان مضمونها أكثر قسوة، ودون ما إخلال بحقوق الدفاع التي تقارنها. ولا تتعلق هذه الضوابط جميعها بالعقوبات التي توقعها السلطة القضائية فقط، ولكنها تمتد لكل جزاء يتمحض عقابا، ولو كان المشرع قد عهد بالنطق به إلى جهة غير قضائية.Une peine ne peut etre infligée qu" a la condition que soient respectés le principe de légalité des délits et des peines, le principe de nécessité des peines, le princpe de non - rétroactivité de la loi pénale d"incrimination plus sévere ainsi que le respect du principe des droits de la défense. Ces exigences concernent non seulement les peines prononcées par les juridictions répressives mais aussi toute sanction ayant le caractére d"une punition meme si le législateur a Laissé Le soin de La prononcer a une autorité de nature non judiciaire. (DC , 17 Janvier 1989, cons. 53 a 42 , p. 18 248 - 88)

وحيث إن قضاء هذه المحكمة في شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع الفعل - وقبل الفصل فيه نهائيا - مؤداه أن سريان القانون اللاحق في شأن الأفعال التي أثمها قانون سابق، وإن اتخذ من نص المادة 5 من قانون العقوبات موطئا وسندا، إلا أن صون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور بنص المادة 41 منه، هي التي تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها. ذلك أن ما يعتبر قانونا أصلح للمتهم، وإن كان لا يندرج تحت القوانين التفسيرية التي تندمج أحكامها في القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه باعتبارها جزءا منه يبلور إرادة المشرع التي قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التي أثمها القانون القديم، إنما ينشئ للمتهم مركزا قانونيا جديدا، ويقوض - من خلال رد هذه الأفعال إلى دائرة المشروعية - مركزا سابقا. ومن ثم يحل القانون الجديد - وقد صار أكثر رفقا بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقا طبيعيا لا يمس - محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل ينحي ألحقهما أسبقهما.

وغدا لازما بالتالي - وفي مجال إعمال القوانين الجنائية الموضوعية  Les lois pénales de fond الأكثر رفقا بالمتهم - توكيد أن صون الحرية الشخصية من جهة، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى، مصلحتان متوازيتان، فلا تتهادمان. وصار أمراً مقضيا - وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم - أن ترد لأصحابها تلك الحرية التي كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه، إعلاء للقيم التي انحاز إليها القانون الجديد، وعلى تقدير أن صونها لا يخل بالنظام العام باعتباره مفهوما مرنا متطورا على ضوء مقاييس العقل الجمعي التي لا ينفصل القانون الأصلح عنها، بل يوافقها ويعمل على ضوئها، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره إلا تثبيتا للنظام العام بما يحول دون انفراط عقده، بعد أن صار هذا القانون أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم.

وحيث إن القوانين الجزائية التي نقارنها ببعض تحديدا لأصلحها للمتهم، تفترض اتفاقها جميعا مع الدستور، وتزاحمها على محل واحد، وتفاوتها فيما بينها في عقوباتها، فلا نغلب من صور الجزاء التي تتعامد على المحل الواحد، إلا تلك التي تكون في محتواها أو شرائطها أو مبلغها Le contenu, Les modalités et Le quantum des peines أقل بأسا من غيرها، وأهون أثراً.

وحيث إن البين من النصوص التي أثم بها المشرع جريمة خلو الرجل في نطاق العلائق الإيجارية - وبقدر اتصالها بالنزاع الراهن - أن إتيان الأفعال التي تقوم بها هذه الجريمة، ظل مشمولا بالجزاء الجنائي حتى بعد العمل بالقانون رقم 136 لسنة 1981 الذي صدر منظما بعض الأحكام الخاصة بالعلائق الإيجارية، ذلك أن هذا القانون، وإن نص على إلغاء العقوبات المقيدة للحرية التي فرضتها قوانين إيجار الأماكن السابقة على العمل بأحكامه، اتساقا مع اتجاهه إلى الحد من القيود التي أرهق بها المشرع مصالح المؤجر، إلا أنه استثنى من ذلك جريمة خلو الرجل، والجرائم المنصوص عليها في المادة 23 منه، مبقيا بذلك على عقوباتها.

وحيث إن القانون اللاحق - وهو القانون رقم 4 لسنة 1996 - أعاد من جديد تنظيم جريمة خلو الرجل في شأن الأماكن التي حددتها مادته الأولى، مقررا سريان قواعد القانون المدني - دون غيرها - عند تأجيرها واستغلالها، وملغيا كل قاعدة على خلافها، مؤكدا بذلك استئثار أصحابها بها، لتخرج هذه الأماكن بذلك من نطاق التدابير الاستثنائية التي درج المشرع على فرضها في مجال العلائق الإيجارية، فلا يكون تأجيرها إلا وفق الشروط التي تتطابق بشأنها إرادة مؤجريها مع من يتقدمون لطلبها، ولو كان من بينها تقاضى المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، أيا كان وصفها أو مقدارها أو سببها. وهو ما يعني أن الضرورة الاجتماعية التي انطلق منها الجزاء المقرر بالقوانين السابقة في شأن هذه الجريمة، قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة في واحد من أطوار تقدمها، قوامها حرية التعاقد، فلا يكون الجزاء الجنائي - وقد لابس القيود التي فرضتها هذه القوانين على تلك الحرية - إلا منهدما بعد العمل بالقانون الجديد.

وحيث إن القول بأن لكل من قوانين إيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم 4 لسنة 1996، مجالا ينحصر فيه تطبيقها، وأنها جميعا تعتبر من قبيل التنظيم الخاص لموضوعها، فلا يقيدها هذا القانون باعتباره تشريعا عاما.

مردود أولا: بأن القانون اللاحق تغيا أن يعيد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها، فلا تحكمها إلا حرية التعاقد التي يلازمها بالضرورة أن يكون المتعاقدان على شروطهما التي يناقضها أن يكون الاتفاق على مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار - وهو جائز قانونا في شأن الأماكن التي ينظمها القانون الجديد - سببا لتجريم اقتضائها. والأفعال التي أثمها القانون السابق بالشروط التي فرضها، هي ذاتها التي أطلق القانون الجديد الحق فيها، فلا يكون امتداده إليها إلا ضمانا لصون الحرية الشخصية التي منحها الدستور الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها بل إن هذا القانون - وباعتباره أصلح للمتهم - يعتبر متمتعا بالقوة ذاتها التي كفلها الدستور لهذه الحرية، فلا يكون القانون السابق حائلا دون جريانها، بل منجرفا بها.

ومردود ثانيا: بأن التجريم المقرر بالقانون السابق، ارتبط بتدابير استثنائية قدر المشرع ضرورة اتخاذها خلال الفترة التي ظل فيها هذا القانون نافذا. فإذا دل القانون اللاحق على انتفاء الضرورة الاجتماعية التي لا يكون الجزاء الجنائي مبررا مع فواتها، فإن هذا القانون يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية التي كفل الدستور صونها.

ومردود ثالثا: بأن تأثيم المشرع لأفعال بعينها، قد يكون مشروطا بوقوعها في مكان معين، كتجريم الأفعال التي يأتيها شخص داخل النطاق المكاني لمحمية طبيعية إضرارا بخصائصها أو بمواردها. وقد يؤثم المشرع أفعالا بذواتها، جاعلا من ارتكابها في مكان محدد، ظرفا مشددا لعقوبتها، كالسرقة في مكان مسكون أو معد للسكنى أو ملحقاتهما أو في محل للعبادة عدوانا على حرمتها. ولا كذلك جريمة تقاضي المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، ذلك أن وقوعها في الأماكن التي أخضعها هذا القانون لحكمه، ليس شرطا لاكتمال أركانها، ولا ظرفا لازما لتغليظ عقوبتها، ولكنها تتحقق اتصالا بواقعة تأجيرها وبمناسبتها، ولمجرد أن المكان المؤجر لم يكن - عند العمل بالقانون الجديد - خاليا.

ومردود رابعا: بأن من غير المتصور أن يظل قائما، التجريم المقرر بالقانون السابق في شأن تقاضي مبالغ خارج نطاق عقد الإيجار، إذا كانت الأماكن التي يشملها هذا القانون مؤجرة قبل نفاذ القانون الجديد، فإذا خلا مكان منها وقت سريان هذا القانون، تحرر المؤجر جنائيا من كل قيد يتعلق باقتضاء المؤجر لمبالغ خارج نطاق عقد الإيجار وليس مفهوما أن يكون للفعل الواحد معنيان مختلفان، ولا أن تحتفظ الجريمة التي أنشاها القانون القديم بذاتيتها، وبوطأة عقوبتها، بعد أن جرد القانون الجديد الفعل الذي يكونها من الآثام التي احتضنها.

ومردود خامسا: بأن القانون الجديد صرح بإلغاء كل قانون يتضمن أحكاما تناقض تلك التي أتى بها، بما مؤداه إطراح النصوص المخالفة للقانون الجديد - في شأن يتعلق بالتجريم - سواء تضمنها تنظيم عام أو خاص. ذلك أن القوانين لا تتنازع إلا بقدر تعارضها، ولكنها تتوافق من خلال وسائل متعددة يتصدرها - في المجال الجنائي - القانون الأصلح للمتهم، فلا يكون نسيجها إلا واحدا. والجريمة التي أنشأها القانون السابق هي ذاتها التي هدمها القانون الجديد. ووجودها وانعدامها متصادمان، فلا يستقيم اجتماعهما.

ومردود سادسا: بأن إعمال الأثر الرجعى للقانون الأصلح للمتهم يعتبر انحيازا من القاضي لضمانة جوهرية للحرية الشخصية، تبلورها السياسة العقابية الجديدة للسلطة التشريعية التي تتحدد على ضوء فهمها للحقائق المتغيرة للضرورة الاجتماعية وهي بعد ضرورة ينبغي أن يحمل عليها كل جزاء جنائي، وإلا فقد علة وجوده

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت الواقعة محل الاتهام الجنائي لم تعد معاقباً عليها، فقد تعين الحكم بانتفاء مصلحة المدعي في الدعوى الماثلة، بعد أن غض المشرع بصره عن بعض التدابير الاستثنائية للعلائق الإيجارية التي انبنى التجريم عليها، وخرج من صلبها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة باعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 أصلح للمتهم - وقد انبنى على التطبيق المباشر للقواعد الدستورية التي تناولتها على النحو المتقدم - فإن حكمها باعتبار هذا القانون كذلك، يكون متمتعاً بالحجية المطلقة التي أسبغها المشرع على أحكامها الصادرة في المسائل الدستورية، وملزماً بالتالي الناس كافة وكل سلطة في الدولة، بما في ذلك جهات القضاء على اختلافها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية