المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

الدعوى رقم 48 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم

 

توفر شرط المصلحة الشخصية المباشرة في الدعوى الدستورية

حيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية وهو كذلك يقيد تدخلها في هذه الخصومة، فلا تفصل في غير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين: أولهما: أن يقيم المدعي - وفي حدود الصفة التي اختصم بها النص المطعون فيه - الدليل على أن ضررا واقعيا - اقتصاديا أو غيره - قد لحق به، سواء أكان مهدداً بهذا الضرر، أم كان قد وقع فعلا. ويتعين دوما أن يكون الضرر المدعى به مباشرا، منفصلا عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلا بالعناصر التي يقوم عليها، ممكنا تصوره ومواجهته بالترضية القضائية، تسوية لآثاره ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائدا إلى النص المطعون فيه، وليس ضررا متوهما أو منتحلا أو مجهلا، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلا على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعي أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها.

 

شرعية الجرائم والعقوبات

ومن حيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، غدا أصلا ثابتا كضمان ضد التحكم، فلا يؤثم القاضي أفعالا ينتقيها، ولا يقرر عقوباتها وفق اختياره، إشباعا لنزوة أو انفلاتا عن الحق والعدل وصار التأثيم بالتالي - وبعد زاول السلطة المنفردة - عائدا إلى المشرع، إذ يقرر للجرائم التي يحدثها، عقوباتها التي تناسبها، فلا يكون سريان النصوص القانونية التي تنظمها رجعيا، بل مباشرا لتحكم الأفعال التي تقع بعد العمل بالقانون التي يجرمها ويفسر هذا المبدأ بأن القيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها، لا يمكن بلورتها إلا من خلال السلطة التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم، وأن تعبيرها عن إرادتهم يقتضيها أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد الأفعال التي يجوز تأثيمها وعقوباتها، لضمان مشروعيتها ومن ثم كان إعمال هذا المبدأ لازما لتمكين المواطنين من الاتصال بتلك القيم التي يقوم عليها بنيان مجتمعهم، بما يوحد بينهم ويكفل تماسكهم اجتماعيا، فلا يزدرونها، وإلا كان إيقاع الجزاء الجنائي عليهم لازما لردعهم.

وحيث إن استقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في مفاهيم الدول المتحضرة، دعا إلى توكيده بينها ومن ثم وجد صداه في عديد من المواثيق الدولية، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان وتردد هذا المبدأ كذلك في دساتير عديدة، يندرج تحتها ما تنص عليه المادة 66 من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذي ينص عليها، وما تقرره كذلك المادة 187 من هذا الدستور التي تقضي بأن الأصل في أحكام القوانين هو سريانها اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية في مجموعهم.

وحيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وإن اتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنيانا لإقراره وتوكيده، إلا أن هذه الحرية ذاتها هي التي تقيد من محتواه، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازما إلا بالقدر وفي الحدود التي تكفل صونها. ولا يجوز بالتالي إعمال نصوص عقابية يسئ تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم، ولا تفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها، ولا مد نطاق التجريم - وبطريق القياس - إلى أفعال لم يؤثمها المشرع، بل يتعين دوما - وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير - أن يرجح القاضي من بينها ما يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية في إطار علاقة منطقية يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع، سواء في ذلك تلك التي أعلنها، أو التي يمكن افتراضها عقلا.

وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التي توخاها: أولاهما: أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها. وهي بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيا لها، بل اتساقا معها ونزولا عليها ثانيتهما: ومفترضها أن المرحلة الزمنية التي تقع بين دخول القانون الجنائي حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون، إنما تمثل الفترة التي كان يحيا خلالها، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها فلا يكون رجعيا، على أن يكون مفهوما أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يُفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائي الأسوأ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائي سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التي تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسا، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم في مجال تطبيقها بالنسبة إليه.

 

عدم رجعية القوانين

أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية، يفترض أن يكون تطبيقها في شأن المتهم مسيئا إليه، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانوني في مواجهة سلطة الاتهام، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوما. ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معا وتتكاملان: أولاهما: أن مجال سريان القانون الجنائي ينحصر أصلا في الأفعال اللاحقة لنفاذه، فلا يكون رجعيا كلما كان أشد وقعا على المتهم. وثانيتهما: سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه، أن ثانيتهما لا تعتبر استثناء من أولاهما، ولا هي قيد عليها، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها. وكلتاهما معا تعتبران امتدادا لازما لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات، ولهما معا القيمة الدستورية ذاتها.

 

السمة العقابية للقانون الجنائي

إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم علائق الأفراد بمجتمعهم وفيما بين بعضهم البعض، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم الأفعال التي يأتونها أو يدعونها بما يناقض أوامره أو نواهيه. وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور.

 

الشرعية الدستورية للنصوص العقابية

وحيث إن هذا القضاء - وباعتباره معيارا للشرعية الدستورية للنصوص العقابية - مردد كذلك فيما بين الأمم المتحضرة، ومن بينها فرنسا التي أقر مجلسها الدستوري مبدأين في هذا الشأن. أولهما: أنه كلما نص القانون الجديد على عقوبة أقل قسوة من تلك التي قررها القديم، تعين أن تعامل النصوص القانونية التي تتغيا الحد من آثار تطبيق القانون الجديد في شأن الجرائم التي تم ارتكابها قبل نفاذه، والتي لم يصدر فيها بعد حكم حائز لقوة الأمر المقضى، باعتبارها متضمنة إخلالا بالقاعدة التي صاغتها المادة 8 من إعلان 1789 في شأن حقوق الإنسان والمواطن، والتي لا يجوز للمشرع على ضوئها أن يقرر للأفعال التي يؤثمها، غير عقوباتها التي تضبطها الضرورة بوضوح، فلا تجاوز متطلباتها ذلك أن عدم تطبيق القانون الجديد على الجرائم التي ارتكبها جناتها في ظل القانون القديم، مؤداه أن ينطق القاضي بالعقوبات التي قررها هذا القانون، والتي لم يعد لها - في تقدير السلطة التشريعية التي أنشأتها - من ضرورة.  ثانيهما: أن تأثيم المشرع لأفعال بذواتها، لا ينفصل عن عقوباتها التي يجب أن يكون فرضها مرتبطا بمشروعيتها، وبضرورتها، وبامتناع رجعية النصوص العقابية التي قررتها كلما كان مضمونها أكثر قسوة، ودون ما إخلال بحقوق الدفاع التي تقارنها ولا تتعلق هذه الضوابط جميعها بالعقوبات التي توقعها السلطة القضائية فقط، ولكنها تمتد لكل جزاء يتمحض عقابا، ولو كان المشرع قد عهد بالنطق به إلى جهة غير قضائية.

 

الأخذ بالقانون الأصلح للمتهم

وحيث إن قضاء هذه المحكمة في شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع الفعل - وقبل الفصل فيه نهائيا - مؤداه أن سريان القانون اللاحق في شأن الأفعال التي أثمها قانون سابق، وإن اتخذ من نص المادة 5 من قانون العقوبات موطئا وسندا، إلا أن صون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور بنص المادة 41 من الدستور، هي التي تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها. ذلك أن ما يعتبر قانونا أصلح للمتهم، وإن كان لا يندرج تحت القوانين التفسيرية التي تندمج أحكامها في القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه باعتبارها جزءا منه يبلور إرادة المشرع التي قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التي أثمها القانون القديم، إنما ينشئ للمتهم مركزا قانونيا جديدا، ويقوض - من خلال رد هذه الأفعال إلى دائرة المشروعية - مركزا سابقا. ومن ثم يحل القانون الجديد - وقد صار أكثر رفقا بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقا طبيعيا لا يمس - محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل ينحى ألحقهما أسبقهما وغدا لازما بالتالي - وفي مجال إعمال القوانين الجنائية الموضوعية الأكثر رفقا بالمتهم - توكيد أن صون الحرية الشخصية من جهة، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى، مصلحتان متوازيتان، فلا تتهادمان. وصار أمرا مقضيا - وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم - أن ترد لأصحابها تلك الحرية التي كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه، إعلاء للقيم التي انحاز إليها القانون الجديد، وعلى تقدير أن صونها لا يخل بالنظام العام باعتباره مفهوما مرنا متطورا على ضوء مقاييس العقل الجمعي التي لا ينفصل القانون الأصلح عنها، بل يوافقها ويعمل على ضوئها، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره إلا تثبيتا للنظام العام بما يحول دون انفراط عقده، بعد أن صار هذا القانون أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم.

وحيث إن القوانين الجزائية التي نقارنها ببعض تحديدا لأصلحها للمتهم، تفترض اتفاقها جميعا مع الدستور، وتزاحمها على محل واحد، وتفاوتها فيما بينها في عقوباتها، فلا نغلب من صور الجزاء التي تتعامد على المحل الواحد، إلا تلك التي تكون في محتواها أو شرائطها أو مبلغها أقل بأسا من غيرها، وأهون أثرا.

 

 

الدعوى رقم 48 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

نص الحكم

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 22 فبراير سنة 1997م الموافق 14 شوال سنة 1417هـ.

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين: نهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين.

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 48 لسنة 17 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

3- السيد/ وزير العدل

4- السيد/ وزير الإسكان

5- السيد/ النائب العام

الإجراءات

بتاريخ 24 يوليو سنة 1995، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبا الحكم بعدم دستورية المادتين 26 و77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وكذلك كالمادتين 6 و23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة، قدمت المدعي للمحاكمة الجنائية في القضية رقم 255 لسنة 1992 جنح أمن دولة، متهمة إياه بأنه - وبصفته مؤجراً - تقاضى من المستأجر مقدم إيجار يجاوز أجرة سنتين، وطلبت النيابة عقابه بمواد الاتهام المنصوص عليها بالقانونين رقمي 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر و136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر وقد قضت محكمة أمن الدولة (طوارئ) حضوريا بحبس المتهم سنة مع الشغل، فاستأنف هذا الحكم في القضية رقم 7204 لسنة 1993 س الجيزة وفيها دفع الحاضر عن المتهم بمذكرة قدمها بجلسة 7/6/1995 بعدم دستورية المادتين 26 و77 من القانون رقم 49 لسنة 1977، والمادتين 6 و23 من القانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليهما. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، فقد أجلت نظر الدعوى إلى جلسة 26/7/1995، وصرحت للمدعي برفع دعواه الدستورية، فأقامها.

وحيث إن المدعي يطلب الحكم بعدم دستورية المواد الآتية.

أولا: القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

مادة 26: لا يجوز للمؤجر، مالكا كان أو مستأجرا بالذات أو بالوساطة، اقتضاء أي مقابل أو أتعاب بسبب تحرير العقد أو أي مبلغ إضافي خارج نطاق عقد الإيجار زيادة على التأمين والأجرة المنصوص عليها في العقد.

كما لا يجوز بأية صورة من الصور للمؤجر أن يتقاضى أي مقدم إيجار.

مادة 77: يعاقب كل من يخالف حكم المادة 26 من هذا القانون، سواء كان مؤجراً أو مستأجراً أو وسيطا بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة تعادل مثلي المبلغ الذي تقاضاه بالمخالفة لأحكام هذه المادة. ويعفى من العقوبة كل من المستأجر والوسيط إذا أبلغ أو بادر بالاعتراف بالجريمة وفي جميع الأحوال يجب الحكم على المخالف بأن يرد إلى صاحب الشأن ما تقاضاه على خلاف أحكام المادة المشار إليها.

ثانيا: القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.

مادة 6: يجوز لمالك المبنى المنشأ اعتبارا من تاريخ العمل بهذا القانون، أن يتقاضى من المستأجر مقدم إيجار لا يجاوز أجرة سنتين، وذلك بالشروط الآتية:

1- أن تكون الأعمال الأساسية للبناء قد تمت ولم يتبق إلا مرحلة التشطيب.

2- أن يتم الاتفاق كتابة على مقدار مقدم الإيجار وكيفية خصمه من الأجرة المستحقة في مدة لا تجاوز ضعف المدة المدفوع عنها المقدم وموعد إتمام البناء وتسليم الوحدة صالحة للاستعمال.

ويصدر قرار من الوزير المختص بالإسكان بتنظيم تقاضي مقدم الإيجار، والحد الأقصى لمقدار المقدم بالنسبة لكل مستوى من مستويات البناء.

ولا يسري حكم الفقرة الأخيرة من المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 على مقدم الإيجار الذي يتقاضاه المالك وفقا لأحكام هذه المادة.

مادة 23: يعاقب بعقوبة جريمة النصب المنصوص عليها في قانون العقوبات، المالك الذي يتقاضى بأية صورة من الصور، بذاته أو بالوساطة أكثر من مقدم عن ذات الوحدة أو يؤجرها لأكثر من مستأجر، أو يبيعها لغير من تعاقد معه على شرائها، ويبطل كل تصرف بالبيع لاحق لهذا التاريخ، ولو كان مسجلا.

ويعاقب بذات العقوبة المالك الذي يتخلف دون مقتض عن تسليم الوحدة في الموعد المحدد، فضلا عن إلزامه بأن يؤدي إلى الطرف الآخر مثلي مقدار المقدم، وذلك دون إخلال بالتعاقد، وبحق المستأجر في استكمال الأعمال الناقصة وفقا لحكم الفقرة الأخيرة من المادة 13 من القانون رقم 49 لسنة 1977 ويكون ممثل الشخص الاعتباري مسئولا عما يقع منه من مخالفات لأحكام هذه المادة.

وحيث إن من المقرر أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية وهو كذلك يقيد تدخلها في هذه الخصومة، فلا تفصل في غير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي ويتحدد مفهوم هذا الشرط باجتماع عنصرين: أولهما: أن يقيم المدعي - وفي حدود الصفة التي اختصم بها النص المطعون فيه - الدليل على أن ضررا واقعيا - اقتصاديا أو غيره - قد لحق به، سواء أكان مهدداً بهذا الضرر، أم كان قد وقع فعلا. ويتعين دوما أن يكون الضرر المدعى به مباشرا، منفصلا عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلا بالعناصر التي يقوم عليها، ممكنا تصوره ومواجهته بالترضية القضائية، تسوية لآثاره ثانيهما: أن يكون هذا الضرر عائدا إلى النص المطعون فيه، وليس ضررا متوهما أو منتحلا أو مجهلا، فإذا لم يكن هذا النص قد طبق أصلا على من ادعى مخالفته للدستور، أو كان من غير المخاطبين بأحكامه، أو كان الإخلال بالحقوق التي يدعيها لا يعود إليه، دل ذلك على انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة، ذلك أن إبطال النص التشريعي في هذه الصور جميعها لن يحقق للمدعي أية فائدة عملية يمكن أن يتغير بها مركزه القانوني بعد الفصل في الدعوى الدستورية، عما كان عليه قبلها.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان الثابت من الأوراق أن المبنى الذي قام المدعي بتأجير إحدى وحداته، قد أنشئ عام 1988، فإن القانون رقم 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، هو الذي يحكم تقاضي المؤجر مقدم إيجار يزيد على أجرة سنتين، وذلك عملا بالفقرة الأولى من المادة 6 من هذا القانون التي تخول مالك المبنى المنشأ اعتبارا من تاريخ العمل بهذا القانون، أن يتقاضى من المستأجر مقدم إيجار لا يجاوز أجرة سنتين بالشروط التي بينتها.

وإذ كانت الفقرة الثانية من هذه المادة تنص على أن تقاضي مقدم إيجار وفقا لحكمها لا يخضع لحكم الفقرة الثانية من المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر؛ وكانت هذه الفقرة هي التي حظر المشرع بموجبها على المؤجر أن يتقاضى بأية صورة أي مقدم إيجار؛ وكان ذلك مؤداه أن العقوبة التي تضمنتها المادة 77 من هذا القانون في شأن من يخالفون حكم المادة 26 منه، لا مجال لتطبيقها - اعتبارا من تاريخ العمل بالقانون رقم 136 لسنة 1981 المشار إليه - إلا بالنسبة إلى من يتقاضون مقدم إيجار يزيد على أجرة سنتين، فإن نطاق الدعوى الدستورية ينحصر في الطعن بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 6 من القانون رقم 136 لسنة 1981 بعد ربطها بالعقوبة على مخالفتها التي قررتها المادة 77 من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليها.

وحيث إن المدعي ينعى على النصوص المطعون عليها - محددة نطاقا، على النحو المتقدم - مخالفتها لأحكام المواد 2 و34 و40 من الدستور، وذلك من عدة أوجه أولها: أن التعامل في الأموال إما أن يكون حلالا أو حراما، ولا يجوز بالتالي فرض قيود على تداول الأموال دون نص شرعي ولا يعدو حظر تقاضي المؤجر مقدم إيجار لا يزيد عن أجرة سنتين، أن يكون تسعيرا منهيا عنه، وإخلالا بحرية التعامل، وهي الأصل، وإغراء لكل مستأجر بأن يدعي زورا حصول المؤجر على مقدم إيجار بالمخالفة للقانون ثانيها: أن القوانين المنظمة للعلائق الإيجارية، لا يجوز تطبيقها إلا بقدر الضرورة التي أحاطتها وليس أدل على انتفائها من أن الفكر الاشتراكي ألهم هذه القوانين فجورها، ثم فقد مكانه الأعلى بعد أن صار العرض والطلب قاعدة التعامل في إطار سوق مفتوحة تحكمها آلياتها ثالثها: أن النصوص المطعون عليها تنحاز إلى جانب المستأجر، ولا تقيم وزنا لحقوق المؤجر قبله، والموسرون يستطيعون من خلال مباني الإسكان الفاخر التي يقيمونها، أن يملكوها لآخرين بالكامل ويتخلصون بذلك من مسئوليتها ولا كذلك المؤجرون المحدودون دخلاً، إذ عليهم إذا أنشأوا عقارا، أن يقنعوا بتمليك ثلث وحداته، مع تأجير باقيها، بما ينطوي عليه ذلك من توقيع العقوبة التي تضمنها النص المطعون فيه عند تقاضيهم مقدم إيجار يزيد على أجرة سنتين، وفي ذلك إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون.

ومن حيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، غدا أصلا ثابتا كضمان ضد التحكم، فلا يؤثم القاضي أفعالا ينتقيها، ولا يقرر عقوباتها وفق اختياره، إشباعا لنزوة أو انفلاتا عن الحق والعدل وصار التأثيم بالتالي - وبعد زاول السلطة المنفردة - عائدا إلى المشرع، إذ يقرر للجرائم التي يحدثها، عقوباتها التي تناسبها، فلا يكون سريان النصوص القانونية التي تنظمها رجعيا، بل مباشرا لتحكم الأفعال التي تقع بعد العمل بالقانون التي يجرمها Nullum crimen, Nulla poena, Sine lege ويفسر هذا المبدأ بأن القيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها، لا يمكن بلورتها إلا من خلال السلطة التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم، وأن تعبيرها عن إرادتهم يقتضيها أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد الأفعال التي يجوز تأثيمها وعقوباتها، لضمان مشروعيتها ومن ثم كان إعمال هذا المبدأ لازما لتمكين المواطنين من الاتصال بتلك القيم التي يقوم عليها بنيان مجتمعهم، بما يوحد بينهم ويكفل تماسكهم اجتماعياCohésion sociale ، فلا يزدرونها، وإلا كان إيقاع الجزاء الجنائي عليهم لازما لردعهم.

وحيث إن استقرار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في مفاهيم الدول المتحضرة، دعا إلى توكيده بينها ومن ثم وجد صداه في عديد من المواثيق الدولية، من بينها الفقرة الأخيرة من المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والفقرة الأولى من المادة 15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 7 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان وتردد هذا المبدأ كذلك في دساتير عديدة، يندرج تحتها ما تنص عليه المادة 66 من دستور جمهورية مصر العربية من أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لنفاذ القانون الذي ينص عليها، وما تقرره كذلك المادة 187 من هذا الدستور التي تقضي بأن الأصل في أحكام القوانين هو سريانها اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا أثر لها فيما وقع قبلها إلا بنص خاص تقره أغلبية أعضاء السلطة التشريعية في مجموعهم.

وحيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وإن اتخذ من ضمان الحرية الشخصية بنيانا لإقراره وتوكيده، إلا أن هذه الحرية ذاتها هي التي تقيد من محتواه، فلا يكون إنفاذ هذا المبدأ لازما إلا بالقدر وفي الحدود التي تكفل صونها In Favorem. ولا يجوز بالتالي إعمال نصوص عقابية يسئ تطبيقها إلى مركز قائم لمتهم، ولا تفسيرها بما يخرجها عن معناها أو مقاصدها، ولا مد نطاق التجريم - وبطريق القياس - إلى أفعال لم يؤثمها المشرع، بل يتعين دوما - وكلما كان مضمونها يحتمل أكثر من تفسير - أن يرجح القاضي من بينها ما يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية في إطار علاقة منطقية  La ratio Legis يقيمها بين هذه النصوص وإرادة المشرع، سواء في ذلك تلك التي أعلنها، أو التي يمكن افتراضها عقلا.

وحيث إن النطاق الحقيقي لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إنما يتحدد على ضوء ضمانتين تكفلان الأغراض التي توخاها: أولاهما: أن تصاغ النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها. وهي بعد ضمانة غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيا لها، بل اتساقا معها ونزولا عليها ثانيتهما: ومفترضها أن المرحلة الزمنية التي تقع بين دخول القانون الجنائي حيز التنفيذ وإلغاء هذا القانون، إنما تمثل الفترة التي كان يحيا خلالها، فلا يطبق على أفعال أتاها جناتها قبل نفاذه، بل يتعين أن يكون هذا القانون سابقا عليها La loi préalable فلا يكون رجعيا، على أن يكون مفهوما أن القوانين الجنائية وإن كان سريانها على وقائع اكتمل تكوينها قبل نفاذها، غير جائز أصلا، إلا أن إطلاق هذه القاعدة يُفقدها معناها، ذلك أن الحرية الشخصية وإن كان يهددها القانون الجنائي الأسوأ، إلا أن هذا القانون يرعاها ويحميها إذا كان أكثر رفقا بالمتهم، سواء من خلال إنهاء تجريم أفعال أثمها قانون جنائي سابق، أو عن طريق تعديل تكييفها أو بنيان بعض العناصر التي تقوم عليها، بما يمحو عقوباتها كلية أو يجعلها أقل بأسا، وبمراعاة أن غلو العقوبة أو هوانها إنما يتحدد على ضوء مركز المتهم في مجال تطبيقها بالنسبة إليه.

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن إنكار الأثر الرجعى للقوانين الجزائية، يفترض أن يكون تطبيقها في شأن المتهم مسيئا إليه، فإن كانت أكثر فائدة لمركزه القانوني في مواجهة سلطة الاتهام، فإن رجعيتها تكون أمراً محتوما. ومن ثم نكون أمام قاعدتين تجريان معا وتتكاملان: أولاهما: أن مجال سريان القانون الجنائي ينحصر أصلا في الأفعال اللاحقة لنفاذه، فلا يكون رجعيا كلما كان أشد وقعا على المتهم. وثانيتهما: سريان القانون اللاحق على وقائع كان يؤثمها قانون سابق، كلما كان القانون الجديد أكثر يسراً وتكامل هاتين القاعدتين مؤداه، أن ثانيتهما لا تعتبر استثناء من أولاهما، ولا هي قيد عليها، بل فرع منها ونتيجة حتمية لها. وكلتاهما معا تعتبران امتدادا لازما لقاعدة شرعية الجرائم والعقوبات Le prolongement nécessaire، ولهما معا القيمة الدستورية ذاتها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم علائق الأفراد بمجتمعهم وفيما بين بعضهم البعض، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم الأفعال التي يأتونها أو يدعونها بما يناقض أوامره أو نواهيه. وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور.

وحيث إن هذا القضاء - وباعتباره معيارا للشرعية الدستورية للنصوص العقابية - مردد كذلك فيما بين الأمم المتحضرة، ومن بينها فرنسا التي أقر مجلسها الدستوري مبدأين في هذا الشأن. أولهما: أنه كلما نص القانون الجديد على عقوبة أقل قسوة من تلك التي قررها القديم، تعين أن تعامل النصوص القانونية التي تتغيا الحد من آثار تطبيق القانون الجديد في شأن الجرائم التي تم ارتكابها قبل نفاذه، والتي لم يصدر فيها بعد حكم حائز لقوة الأمر المقضى، باعتبارها متضمنة إخلالا بالقاعدة التي صاغتها المادة 8 من إعلان 1789 في شأن حقوق الإنسان والمواطن، والتي لا يجوز للمشرع على ضوئها أن يقرر للأفعال التي يؤثمها، غير عقوباتها التي تضبطها الضرورة بوضوح، فلا تجاوز متطلباتها La loi ne doit établir que des peines strictement et évidemment nécessaires  ذلك أن عدم تطبيق القانون الجديد على الجرائم التي ارتكبها جناتها في ظل القانون القديم، مؤداه أن ينطق القاضي بالعقوبات التي قررها هذا القانون، والتي لم يعد لها - في تقدير السلطة التشريعية التي أنشأتها - من ضرورة (DC, 19 et 20 janvier 1891, cons. 75, Rec . p . 127 - 80 - 10) ثانيهما: أن تأثيم المشرع لأفعال بذواتها، لا ينفصل عن عقوباتها التي يجب أن يكون فرضها مرتبطا بمشروعيتها، وبضرورتها، وبامتناع رجعية النصوص العقابية التي قررتها كلما كان مضمونها أكثر قسوة، ودون ما إخلال بحقوق الدفاع التي تقارنها ولا تتعلق هذه الضوابط جميعها بالعقوبات التي توقعها السلطة القضائية فقط، ولكنها تمتد لكل جزاء يتمحض عقابا، ولو كان المشرع قد عهد بالنطق به إلى جهة غير قضائية.Une peine ne peut etre infligée qu" a la condition que soient respectés le principe de légalité des délits et des peines, le principe de nécessité des peines, le princpe de non - rétroactivité de la loi pénale d"incrimination plus sévere ainsi que le respect du principe des droits de la defense. Ces exigences concernent non seulement les peines prononcées par les juridictions répressives mais aussi toute sanction ayant le caractére d"une punition meme si le législateur a Laissé Le soin de La prononcer a une autorité de nature non judiciaire. (DC , 17 Janvier 1989, cons. 35 a 42 , p . 18 842 - 88)

وحيث إن قضاء هذه المحكمة في شأن كل قانون أصلح للمتهم يصدر بعد وقوع الفعل - وقبل الفصل فيه نهائيا - مؤداه أن سريان القانون اللاحق في شأن الأفعال التي أثمها قانون سابق، وإن اتخذ من نص المادة 5 من قانون العقوبات موطئا وسندا، إلا أن صون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور بنص المادة 41 من الدستور، هي التي تقيم هذه القاعدة وترسيها بما يحول بين المشرع وتعديلها أو العدول عنها. ذلك أن ما يعتبر قانونا أصلح للمتهم، وإن كان لا يندرج تحت القوانين التفسيرية التي تندمج أحكامها في القانون المفسر، وترتد إلى تاريخ نفاذه باعتبارها جزءا منه يبلور إرادة المشرع التي قصد إليها ابتداء عند إقراره لهذا القانون، إلا أن كل قانون جديد يمحو التجريم عن الأفعال التي أثمها القانون القديم، إنما ينشئ للمتهم مركزا قانونيا جديدا، ويقوض - من خلال رد هذه الأفعال إلى دائرة المشروعية - مركزا سابقا. ومن ثم يحل القانون الجديد - وقد صار أكثر رفقا بالمتهم وأعون على صون الحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقا طبيعيا لا يمس - محل القانون القديم، فلا يتزاحمان أو يتداخلان، بل ينحى ألحقهما أسبقهما وغدا لازما بالتالي - وفي مجال إعمال القوانين الجنائية الموضوعية  Les lois pénales de fond الأكثر رفقا بالمتهم - توكيد أن صون الحرية الشخصية من جهة، وضرورة الدفاع عن مصالح الجماعة والتحوط لنظامها العام من جهة أخرى، مصلحتان متوازيتان، فلا تتهادمان. وصار أمرا مقضيا - وكلما صدر قانون جديد يعيد الأوضاع إلى حالها قبل التجريم - أن ترد لأصحابها تلك الحرية التي كان القانون القديم ينال منها، وأن يرتد هذا القانون على عقبيه، إعلاء للقيم التي انحاز إليها القانون الجديد، وعلى تقدير أن صونها لا يخل بالنظام العام باعتباره مفهوما مرنا متطورا على ضوء مقاييس العقل الجمعي التي لا ينفصل القانون الأصلح عنها، بل يوافقها ويعمل على ضوئها، فلا يكون إنفاذه منذ صدوره إلا تثبيتا للنظام العام بما يحول دون انفراط عقده، بعد أن صار هذا القانون أكفل لحقوق المخاطبين بالقانون القديم وأصون لحرياتهم.

وحيث إن القوانين الجزائية التي نقارنها ببعض تحديدا لأصلحها للمتهم، تفترض اتفاقها جميعا مع الدستور، وتزاحمها على محل واحد، وتفاوتها فيما بينها في عقوباتها، فلا نغلب من صور الجزاء التي تتعامد على المحل الواحد، إلا تلك التي تكون في محتواها أو شرائطها أو مبلغها Le contenu, Les modalités et Le quantum des penies أقل بأسا من غيرها، وأهون أثرا.

وحيث إن البين من القوانين التي نظم بها المشرع العلائق الإيجارية - وبقدر اتصال أحكامها بالنزاع الراهن - أن المشرع انتقل بحق المؤجر في تقاضي مقدم الأجرة، من الحظر الكامل، إلى الحظر المقيد، إلى إطلاق هذا الحق من كل قيد ضمانا لأن يكون حقا مكتملا لا مبتسرا فقد حال المشرع بالفقرة الثانية من المادة 26 من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، دون أن يتقاضى المؤجر - تحت أية صورة من الصور - مقدم إيجار على أي نحو. واقترن هذا الحظر الكامل بنص المادة 77 من هذا القانون التي تقضي بمعاقبة كل من أخل بحكم المادة 26 منه - سواء أكان مؤجرا أو مستأجرا أو وسيطا - بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة تعادل مثلي المبلغ الذي تقاضاه بالمخالفة لأحكام هذه المادة، متوخيا بذلك ألا يفاضل المؤجر بين المتزاحمين على وحدة يملكها، على ضوء أكثرهم قدرة لدفع مقدم أجرتها.

ثم صدر بعد ذلك القانون رقم 136 لسنة 1981 منظما بعض الأحكام الخاصة للعلائق الإيجارية، وكافلا بالفقرة الأولى من مادته السادسة، حق المؤجر في أن يتقاضى - بالشروط التي حددتها هذه الفقرة - مقدم إيجار لا يزيد على أجرة سنتين وصار هذا الحظر المحدود مُقَيدا بالتالي من حكم الفقرة الثانية من المادة 26 من القانون السابق، ومانعا من تطبيقها في شأن مقدم الإيجار الذي يتقاضاه المؤجر وفقا لأحكام القانون اللاحق.

وتلا هذين القانونين، صدور القانون رقم 4 لسنة 1996 في 30 من يناير 1996، الذي أعاد المشرع بمقتضاه إلى حرية التعاقد صورا بذاتها من العلائق الإيجارية، هي تلك التي نظمتها مادته الأولى بنصها على ألا تسري أحكام القانونين رقمي 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، و136 لسنة 1981 ببعض الأحكام الخاصة ببيع وتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، والقوانين الخاصة بإيجار الأماكن الصادرة قبلهما، على الأماكن التي لم يسبق تأجيرها، ولا على الأماكن التي انتهت عقود تأجيرها قبل العمل بهذا القانون أو تنتهي بعده لأي سبب، دون أن يكون لأحد حق البقاء فيها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة في شأن العلائق الإيجارية، قد جرى على أن التدابير الاستثنائية التي تقارنها، لا تعتبر حلا دائما ونهائيا لمشكلاتها، فلا يتحول المشرع عنها، بل عليه أن يعيد النظر فيها على ضوء ما ينبغي أن يقوم في شأنها من توازن بين حقوق كل من المؤجر والمستأجر، فلا يختل التضامن بينهما اجتماعيا، ولا يكون صراعهما بديلا عن التعاون بينهما، بل تتوافق مصالحهما اقتصاديا، وعلى تقدير أن الأصل في عقود القانون الخاص هو انبناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها، إلا بقدر الضرورة التي يتعين أن تخلي مكانها - عند فواتها - لحرية التعاقد.

وحيث إن الشروط التي فرضها المشرع على اقتضاء مقدم الإيجار - مع تفاوتها في درجتها على النحو المتقدم، ثم التحلل منها - مردها إلى الضرورة التي عاصرتها. وبقدر حدتها ثم تراخيها ثم زوالها، أقر المشرع من النصوص القانونية ما يناسبها، ويكون ملتئما مع مدارجها.

وحيث إن القانون رقم 136 لسنة 1981، وإن شرط لتطبيق العقوبة التي كان القانون رقم 49 لسنة 1977 قد فرضها في شأن تقاضي المؤجر لمقدم إيجار، أن يكون الحصول عليه بما يجاوز أجرة سنتين، إلا أن القانون اللاحق - وهو القانون رقم 4 لسنة 1996 - أعاد من جديد تنظيم هذا الموضوع في شأن الأماكن التي حددتها مادته الأولى، مقررا سريان قواعد القانون المدني - دون غيرها - في شأن تأجيرها واستغلالها، وملغيا كل قاعدة على خلافها، مؤكدا بذلك استئثار أصحابها بها، لتخرج هذه الأماكن بذلك من نطاق التدابير الاستثنائية التي درج المشرع على فرضها في مجال العلائق الإيجارية، فلا يكون تأجيرها إلا وفق الشروط التي تتطابق بشأنها إرادة مؤجريها مع من يتقدمون لطلبها، ولو كان من بينها تقاضي المؤجر مقدم إيجار أيا كانت المدة التي يمتد إليها. وهو ما يعني أن الضرورة الاجتماعية التي انطلق منها الجزاء المقرر بالقانون القديم وتولد عنها، قد أسقطتها فلسفة جديدة تبنتها الجماعة في واحد من أطوار تقدمها، قوامها حرية التعاقد، فلا يكون الجزاء الجنائي - وقد لابس القيود التي فرضها القانون القديم على هذه الحرية - إلا منهدما بعد العمل بالقانون الجديد.

وحيث إن القول بأن لكل من قوانين إيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم 4 لسنة 1996، مجال ينحصر فيه تطبيقها، وأنها جميعا تعتبر من قبيل التنظيم الخاص لموضوعها، فلا يقيدها هذا القانون باعتباره تشريعا عاما.

مردود أولا: بأن القانون اللاحق تغيا أن يعيد العلائق الإيجارية إلى الأصل فيها، فلا تحكمها إلا حرية التعاقد التي يلازمها بالضرورة أن يكون المتعاقدان على شروطهما التي يناقضها أن يكون الاتفاق على تعجيل الأجرة - وهو جائز قانونا في شأن الأماكن التي ينظمها القانون الجديد - سببا لتجريم اقتضائها والأفعال التي أثمها القانون السابق بالشروط التي فرضها، هي ذاتها التي أطلق القانون الجديد الحق فيها، فلا يكون امتداده إليها إلا ضمانا لصون الحرية الشخصية التي منحها الدستور الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها بل إن هذا القانون - وباعتباره أصلح للمتهم - يعتبر متمتعا بالقوة ذاتها التي كفلها الدستور لهذه الحرية، فلا يكون القانون السابق حائلا دون جريانها، بل منجرفا بها.

ومردود ثانيا: بأن التجريم المقرر بالقانون السابق، ارتبط بتدابير استثنائية قدر المشرع ضرورة اتخاذها خلال الفترة التي ظل فيها هذا القانون نافذا. فإذا دل القانون اللاحق على انتفاء الضرورة الاجتماعية التي لا يكون الجزاء الجنائي مبررا مع فواتها، فإن هذا القانون يكون أكثر ضمانا للحرية الشخصية التي كفل الدستور صونها.

ومردود ثالثا: بأن تأثيم المشرع لأفعال بعينها، قد يكون مشروطا بوقوعها في مكان معين، كتجريم الأفعال التي يأتيها شخص داخل النطاق المكاني لمحمية طبيعية إضرارا بخصائصها أو بمواردها وقد يؤثم المشرع أفعالا بذواتها، جاعلا من ارتكابها في مكان محدد، ظرفا مشددا لعقوبتها، كالسرقة في مكان مسكون أو معد للسكنى أو ملحقاتهما أو في محل للعبادة عدوانا على حرمتها ولا كذلك جريمة تقاضى المؤجر لمقدم إيجار يزيد على أجرة سنتين التي نص عليها القانون السابق، ذلك أن وقوعها في الأماكن التي أخضعها هذا القانون لحكمه، ليس شرطا لاكتمال أركانها، ولا ظرفا لازما لتغليظ عقوبتها، ولكنها تتحقق اتصالا بواقعة تأجيرها وبمناسبتها، ولمجرد أن المكان المؤجر لم يكن - عند العمل بالقانون الجديد - خاليا.

ومردود رابعا: بأن من غير المتصور أن يظل قائما، التجريم المقرر بالقانون السابق في شأن تقاضى مقدم الأجرة لأكثر من سنتين، إذا كانت الأماكن التي يشملها هذا القانون مؤجرة قبل نفاذ القانون الجديد، فإذا خلا مكان منها وقت سريان هذا القانون، تحرر المؤجر جنائيا من كل قيد يتعلق بالمدة التي يقتضى عنها مقدم الأجرة. وليس مفهوما أن يكون للفعل الواحد معنيان مختلفان، ولا أن تحتفظ الجريمة التي أنشاها القانون القديم بذاتيتها، وبوطأة عقوبتها، بعد أن جرد القانون الجديد الفعل الذي يكونها من الآثام التي احتضنها.

ومردود خامسا: بأن القانون الجديد صرح بإلغاء كل قانون يتضمن أحكاما تناقض تلك التي أتى بها، بما مؤداه إطراح النصوص المخالفة للقانون الجديد - في شأن يتعلق بالتجريم - سواء تضمنها تنظيم عام أو خاص. ذلك أن القوانين لا تتنازع إلا بقدر تعارضها، ولكنها تتوافق من خلال وسائل متعددة يتصدرها - في المجال الجنائي - القانون الأصلح، فلا يكون نسيجها إلا واحدا. والجريمة التي أنشأها القانون السابق هي ذاتها التي هدمها القانون الجديد ووجودها وانعدامها متصادمان، فلا يستقيم اجتماعهما.

ومردود سادسا: بأن إعمال الأثر الرجعي للقانون الأصلح - يعتبر انحيازا من القاضي لضمانة جوهرية للحرية الشخصية، تبلورها السياسة العقابية الجديدة للسلطة التشريعية التي تتحدد على ضوء فهمها للحقائق المتغيرة للضرورة الاجتماعية. وهي بعد ضرورة ينبغي أن يحمل عليها كل جزاء جنائي، وإلا فقد علة وجوده.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت الواقعة محل الاتهام الجنائي لم تعد معاقبا عليها، فقد تعين الحكم بانتفاء مصلحة المدعي في الدعوى الماثلة، بعد أن غض المشرع بصره عن بعض التدابير الاستثنائية للعلائق الإيجارية التي انبنى التجريم عليها، وخرج من صلبها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة باعتبار القانون رقم 4 لسنة 1996 أصلح للمتهم، قد انبنى على التطبيق المباشر للقواعد الدستورية التي تناولتها على النحو المتقدم، فإن حكمها باعتبار هذا القانون كذلك، يكون متمتعا بالحجية المطلقة التي أسبغها المشرع على أحكامها الصادرة في المسائل الدستورية، وملزما بالتالي الناس كافة وكل سلطة في الدولة، بما في ذلك جهات القضاء على اختلافها.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم قبول الدعوى وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

العودة للصفحة الرئيسية