المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 45 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: جنائي - حرية شخصية - حكم دعوى دستورية - دستور - دعوى دستورية - شريعة اسلامية - قانون - نفقة

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 22 مارس سنة 1997 م، الموافق 13 ذو القعدة سنة 1417 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وعضوية السادة المستشارين/ فاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدى أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتى

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 45 لسنة 17 قضائية "دستورية"

المقامة من

السيد/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس الوزراء

3- السيد/ رئيس مجلس الشعب

4- السيد/ رئيس مجلس الشورى

5- السيد/ وزير العدل

6- السيد/ النائب العام

7- السيدة/ ...

الإجراءات

بتاريخ 24 يونيو سنة 1995، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة 293 من قانون العقوبات.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن السيدة/ ... - المدعى عليها السابعة - كانت قد حصلت على حكم قضائي في الدعوى رقم 302 لسنة 1988 أحوال شخصية قسم أول المحلة الكبرى الجزئية، باستحقاقها نفقة لها ولصغيريها من المدعي، ثم حصلت على حكم في الدعوى رقم 30 لسنة 1993 - من ذات المحكمة - بحبس المدعي ثلاثين يوما لامتناعه عن أداء مبلغ 960 جنيها من متجمد النفقة المحكوم بها. وقد تم تنفيذ هذا الحكم.

وإذ استمر المدعي في امتناعه عن الوفاء بما في ذمته من النفقة، فقد أقامت ضده بالطريق المباشر الجنحة رقم 8538 لسنة 1993 - أمام محكمة جنح قسم أول المحلة الكبرى - بطلب الحكم بمعاقبته بمقتضى المادة 293 من قانون العقوبات، وإلزامه بتعويض مؤقت.

وقد قضت هذه المحكمة بتاريخ 6/11/1993 - وغيابيا - بحبس المدعي ستة أشهر، وبأن يؤدي للمدعية بالحق المدني مبلغ 51 جنيه على سبيل التعويض المؤقت، فعارض في هذا الحكم، وقضى في معارضته بإلغاء الحكم المعارض فيه، وبعدم قبول الدعويين الجنائية والمدنية، إلا أن النيابة العامة طعنت على هذا الحكم استئنافيا تحت رقم 7879 لسنة 1994، وفيه قضت محكمة جنح مستأنف مأمورية المحلة الكبرى الابتدائية - غيابيا - بإلغاء الحكم المستأنف، وإعادة الدعوى إلى محكمة أول درجة للفصل فيها مجددا بهيئة مغايرة.

وإذ دفع المدعي - أثناء نظر الدعوى الموضوعية بعد إعادتها إلى محكمة جنح قسم أول المحلة الكبرى - بعدم دستورية المادة 293 من قانون العقوبات، وقدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، فقد أقام الدعوى الماثلة.

وحيث إن المدعي ينعى على المادة 293 من قانون العقوبات المطعون عليها، مخالفتها لمبادئ الشريعة الإسلامية التي اعتبرتها المادة الثانية من الدستور - بعد تعديلها - المصدر الرئيسي للتشريع، والتي يعتبر صلاح العباد مرهونا باتباعها، تأسيسا على أن من غير المتصور أن يكون الابن سببا في حبس أبيه وتقييد حريته هذا فضلا عن أن الحبس للمرة الثانية وفقا للمادة 293 المطعون عليها، يعطل أباه عن العمل طوال مدة احتجازه في الحبس، وما ينشأ عن ذلك من انقطاع مورد الرزق الذي ينفق منه على الابن فضلا عن أن النص في المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والإجراءات المتعلقة بها، ثم في المادة 293 المطعون عليها، على حبس المدين بالنفقة المحكوم بها، مؤداه اجتماع عقوبتين عن فعل واحد، هو النكول عن أداء النفقة المقضى بها بحكم نافذ مع القدرة على دفعها.

وقد انبنى التجريم المقرر بالنص المطعون عليه على علة صون الروابط العائلية، ولكن تطبيقه يؤدي إلى قطعها.

كذلك جاء هذا النص مخالفا الضوابط التي رسمها الدستور في شأن المحاكمة المنصفة، ومنافيا مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، إذ ينطبق على الرجال المتزوجين دون سواهم، مما يؤدي إلى إحجامهم عن الزواج، وشيوع الزنا.

وحيث إن المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية الصادر بها المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931، تنص على أنه إذا امتنع المحكوم عليه من تنفيذ الحكم الصادر في النفقات أو في أجرة الحضانة أو الرضاعة أو المسكن، ومتى ثبت لديها أن المحكوم عليه قادر على القيام بما حكم به وأمرته ولم يمتثل، حكمت بحبسه. ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس عن ثلاثين يوما أما إذا أدى المحكوم عليه ماحكم به، أو أحضر كفيلا، فإنه يخلى سبيله. وهذا لا يمنع من تنفيذ الحكم بالطرق الاعتيادية.

وصونا للعائلة من أن تهجر، نصت المادة 293 من قانون العقوبات على ما يأتي: "كل من صدر عليه حكم قضائي واجب النفاذ بدفع نفقة لزوجه أو أقاربه أو أصهاره أو أجرة حضانة أو رضاعة أو مسكن، وامتنع عن الدفع مع قدرته عليه مدة ثلاثة شهور بعد التنبيه عليه بالدفع، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تتجاوز خمسمائة جنيه مصرى أو بإحدى هاتين العقوبتين ولا ترفع الدعوى عليه إلا بناء على شكوى من صاحب الشأن. وإذا رفعت بعد الحكم عليه دعوى ثانية عن هذه الجريمة، فتكون عقوبته الحبس مدة لا تزيد على سنة. وفي جميع الأحوال إذا أدى المحكوم عليه ما تجمد في ذمته، أو قدم كفيلا يقبله صاحب الشأن فلا تنفذ العقوبة".

وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية لمشروع هذه المادة، "أنها أضيفت للمعاقبة على جريمة هجر العائلة وهي جريمة تعاقب عليها القوانين الحديثة. وقد أدخلت في بلجيكا بالقانون الصادر في 19 مايو سنة 1912؛ وفي فرنسا بالقانونين الصادرين في 7 فبراير سنة 1924 و3 أبريل سنة 1928؛ وفي إيطاليا بقانون العقوبات الصادر في 19 أكتوبر سنة 1930، وأن النص الجديد يعاقب كل من صدر عليه حكم قضائى واجب النفاذ بدفع نفقة لزوجه أو أقاربه أو أصهاره أو أجرة حضانة أو رضاعة أو مسكن وامتنع عن الدفع مع قدرته عليه مدة ثلاثة شهور بعد التنبيه عليه بالدفع، وأنه إذ كانت هذه الجريمة مما يمس نظام الأسرة ويؤثر في الروابط العائلية، فقد رئي تعليق المحاكمة فيها على شكوى صاحب الشأن".

وحيث إنه عملا بنص المادة 41 من دستور مصر لعام 1923، صدر المرسوم بقانون رقم 92 لسنة 1937 في شأن الإجراءات التي تتخذ وفقا لنص المادة 293 من قانون العقوبات، متوخيا فض التداخل بينها وبين المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وذلك بأن حدد لكل منهما مجال تطبيقها، وجهة الاختصاص بإعمال حكمها. ومن ثم كان هذا المرسوم بقانون متصلا بالتنظيم القضائي بعد إلغاء الدول الأجنبية لامتيازاتها في مصر.

وفي نطاق هذا التنظيم، وإرساء لقواعده، تضمن هذا المرسوم بقانون مادتين؛ تنص أولاهما على امتناع اللجوء لنص المادة 293 من قانون العقوبات، قبل أن يستنفد المحكوم لمصلحته بالنفقة - وفي الأحوال التي يطبق فيها نص المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية - الإجراءات المنصوص عليها فيها. وتقضي ثانيتهما بأنه إذا نفذ الإكراه البدني على شخص وفقا لحكم المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ثم حكم عليه بسبب الواقعة نفسها بعقوبة الحبس تطبيقا للمادة 293 من قانون العقوبات، استنزلت مدة الإكراه البدني الأولى من مدة الحبس المحكوم به، فإذا حكم عليه بغرامة، تم خفضها عند التنفيذ بمقدار عشرة قروش عن كل يوم من أيام الإكراه البدني الذي سبق إنفاذه فيه.

وحيث إن النص المطعون فيه، تقرر أصلا توقيا لهجر العائلة، ولدعم الأواصر بين أفرادها، فلا يمزقها الصراع، ولا يهيمن عليها التباغض، بل يكون التراحم بينهم. موطئا لتعاونهم وفق القيم والتقاليد التي يمليها التضامن الاجتماعي، فلا يتناحرون. ومن ثم كان هجر العائلة جريمة معاقبا عليها في كثير من الدول المتحضرة، لأنها تعني التخلي عنها والامتناع عن الإنفاق عليها، وتعريضها للضياع، تقديرا بأن السلطة الأبوية التي يباشرها أصحابها على بنيهم لا تتمحض عن حقوق، بل تقارنها واجباتهم التي لا يملكون التنصل منها، وإلا وجب حملهم عليها بالجزاء الجنائي، لا يتخلصون منه إلا بعودتهم إلى العائلة التي هجروها، ومواصلتهم الحياة معها، على أن تدل قرائن الحال على أن عودتهم إليها، ليس ملحوظا فيها أن تكون إجراء موقوتا مرحليا، بل واشية بإرادة بقائهم في محيطها، استئنافا للحياة العائلية بين أفرادها.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى، على أنه وإن صح القول بأن علاقة الشخص بذوي قرباه - من غير أبنائه - تقوم في جوهرها على مجرد الصلة - ولو لم تكن صلة محرمية - إلا أن الولد بعض أبيه، أو هو جزؤه الذي لا ينفصل عنه، وإليه يكون منتسبا، فلا يلحق بغيره، وهذه الجزئية أو البعضية مرجعها إلى الولادة، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض. ومن ثم كان اختصاص الوالد دون غيره بالإنفاق على عياله ثابتا لا جدال فيه، بل إن إدرار النفقة عليهم وبقدر كفايتهم، أكفل لحياتهم وأحفظ لأعراضهم وعقولهم، وهو كذلك أدخل إلى تربيتهم وتقويم اعوجاجهم بما يردهم دوما إلى قيم الدين وتعاليمه.

وحمل الوالد على إيفاء النفقة التي حجبها - عنادا أو اهمالا - عن أولاده، هو إلزام بما هو لازم بعد أن منعهم منها دون حق، وأهدر أصل وجوبها لأولاده المحتاجين بها. ومقابلة ظلم الوالد بالعدل ليس إعناتا منطويا على التضييق عليه، بل حقا مطلوبا ديانة، وواجبا تقتضيه الضرورة، محققا لمصالح لها اعتبارها. كذلك فإن تقرير النفقة وفرضها من خلال حكم قضائي، ليس سرفا، ذلك أن الوالد وإن علا لا يحبس في دين لولده وإن سفل، إلا في النفقة، لأن الامتناع عنها مع وجوبها ضياع لنفس مستحقها، مؤد إلى إتلافها.

وحيث إن من المقرر كذلك شرعا، أن نفقة الزوجة تقابل احتباسها لحق زوجها عليها، وإمكان استمتاعه بها استيفاء للمعقود عليه، وعملا بقاعدة كلية مفادها أن من كان محبوسا بحق مقصود لغيره، كانت نفقته عليه. وقصر المرأة على زوجها، يعني أن منافعها التي أذن الله تعالى بها، تعود إليه وحده. ومن ثم كان رزقها وكسوتها، متطلبا معروفا بعد أن أخذها زوجها واستحلها بكلمة الله، وهو ما تنص عليه المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1920 الخاص ببعض أحكام النفقة ومسائل الأحوال الشخصية بعد تعديلها بالقانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية، من أن نفقة الزوجة على زوجها تجب من تاريخ العقد الصحيح بتسليمها نفسها إليه ولوحكما، حتى لو كانت موسرة أو مختلفة معه في الدين، على أن تشمل غذاءها وكسوتها وسكنها وأجر علاجها، وغير ذلك مما يقضي به الشرع.

وحيث إن ما ينعاه المدعي من مخالفة نص المادة 293 من قانون العقوبات المطعون عليها للمادة الثانية من الدستور، مردود بأن قضاء هذه المحكمة مطرد على أن حكم هذه المادة - بعد تعديلها في 22 مايو 1980 - يدل على أن الدستور - واعتبارا من تاريخ العمل بهذا التعديل - قد أتى بقيد على السلطة التشريعية مؤداها تقيدها - فيما تقره من النصوص القانونية - بمراعاة الأصول الكلية للشريعة الإسلامية، إذ هي جوهر بنيانها وركيزتها، وقد اعتبرها الدستور أصلا ينبغي أن ترد إليه هذه النصوص، فلا تتنافر مع مبادئها المقطوع بثبوتها ودلالتها، وإن لم يكن لازما استمداد تلك النصوص مباشرة منها، بل يكفيها ألا تعارضها، ودون ما إخلال بالقيود الأخرى التي فرضها الدستور على السلطة التشريعية في ممارستها لاختصاصاتها الدستورية. ومن ثم لا تمتد الرقابة على الشرعية الدستورية التي تباشرها هذه المحكمة - في مجال تطبيقها للمادة الثانية من الدستور - لغير النصوص القانونية الصادرة بعد تعديلها. ولا كذلك نص المادة 293 من قانون العقوبات المطعون عليها، إذ أصدرها المشرع قبل نفاذ التعديل الصادر في شأن المادة الثانية من الدستور في 22 مايو 1980. وقد ظل حكم النص المطعون عليه قائما دون تعديل لفحواه بعد هذا التاريخ، فلا تمتد إليه بالتالي الرقابة التي تباشرها المحكمة في شأن الشرعية الدستورية.

وحيث إن جواز حمل المدين بالنفقة - سواء كان مستحقها زوجته أو أولاده - واقتضائها من الملتزم بها جبرا - ولو بطريق الإكراه البدني - هو ما تقرر بقضاء المحكمة العليا في الدعوى رقم 1 لسنة 5 قضائية عليا "دستورية" الصادر في 29 من يونيه 1974 بمناسبة فصلها في دستورية نص المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية؛ وكان ما خلص إليه قضاؤها من اتفاقها مع الدستور، يعتبر قولا فصلا لا يقبل تعقيبا من أحد - على ما جرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا - فإن الخوض من جديد في جواز حبس المحكوم عليه بالنفقة - إذا امتنع عن أدائها بعد أن أُمر بدفعها وكان قادرا على إيفائها - يكون لغوا.

وحيث إن ما ينعاه المدعي من مخالفة النص المطعون فيه للمادة 9 من الدستور التي تقضي بأن الأسرة قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وأن على الدولة أن تعمل صون طابعها الأصيل - بما يقوم عليه من القيم والتقاليد - مردود، بأن ما سعى إليه النص المطعون فيه، ليس إلا توثيقا لروابط الأسرة، وأكفل لاتصال أفرادها ببعض، ودعم وشائجهم، وهو كذلك ضمان لوحدتها وتماسكها لا يناقض جوهر بنيانها، بل يرسيها على الدين الحق والخلق القويم، إعلاء لفضائلها، فلا يكون أفرادها بعضهم لبعض خصيما، بل عونا ونصيرا. وكلما كان المدين ممتنعا مطلا أو إعناتا عن الإنفاق على أولاده وزوجه، كان هادما لصلة حرم الله قطعها، فلا يقوم بكفايتهم، بل يرهقهم من أمرهم عسرا فإذا ما حمل على إيفائهم نفقتهم التي يستحقونها، ولو بالحبس، كان ذلك جزاء وفاقا.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة مطرد على أن استيفاء العقوبة التي فرضها المشرع في شأن الجريمة، مؤداه أن القصاص من مرتكبها قد اكتمل، فلا يجوز أن يلاحق جنائيا أكثر من مرة عن الجريمة ذاتها وإلا ظل قلقا مضطربا، مهددا من الدولة بنزواتها، تمد إليه بأسها حين تريد، ليغدو محاطا بألوان من المعاناة لا قبل له بها، مهدرا لموارده في غير مقتض، متعثر الخطى، بل إن إدانته - ولو كان بريئا - تظل أكثر احتمالا، كلما كان الاتهام الجنائي متتابعا عن الجريمة ذاتها.

وما ينعاه المدعي من انطواء النص المطعون فيه على فرض أكثر من عقوبة عن جريمة واحدة.

مردود أولا: بما هو مقرر من أن اللجوء لنص المادة 293 من قانون العقوبات - المطعون عليها - يفترض استنفاد التدابير التي حددتها المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية لتحصيل النفقة المحكوم بها، وأن من يستحقونها قد تضرروا من استمرار امتناع المدين بالنفقة عن دفعها مدة ثلاثة أشهر بعد التنبيه عليه بإيفائها، مما حملهم على أن يتقدموا ضده بشكواهم استنهاضا لنص المادة 293 المطعون عليها التي لا تربطها بالمادة 347 من اللائحة واقعة واحدة يقوم بها جزاء الحبس، بل يفترض إعمال النص المطعون فيه، أن المدين بالنفقة لا زال مماطلا حتى بعد أن حبس وفقا لتلك اللائحة، وأن الامتناع عن دفعها لا زال بالتالي ممتدا من حيث الزمان، بما مؤداه أن وقائع الامتناع - مع تعددها - لا تشكل مشروعا إجراميا واحدا، بل يكون لكل منها ذاتيتها باعتبارها وقائع منفصلة عن بعضها البعض، وإن كان هدفها واحدا ممثلا في اتجاه إرادة المدين بالنفقة إلى النكول عن أدائها.

ومردود ثانيا: بأن عدم جواز فرض أكثر من عقوبة على فعل واحد، يفترض تتابعها واستيفاء كل منها بكامله. ولا كذلك النص المطعون فيه، ذلك أن مدة الإكراه البدني التي تم تنفيذها في حق المدين وفقا لنص المادة 347 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، يجب استنزالها من مدة الحبس المحكوم بها وفقا للنص المطعون فيه فإذا كان قد حكم عليه بغرامة، جرى خفضها عند التنفيذ بمقدار عشرة قروش عن كل يوم من أيام الإكراه البدني الذي سبق إنفاذه فيه.

وحيث إن ما ينعاه المدعي من إخلال النص المطعون فيه بالحرية الشخصية المنصوص عليها في المادة 41 من الدستور.

مردود أولا: بأن ضمانها لا يعني غل يد المشرع عن التدخل لتنظيمها، ذلك أن صون الحرية الشخصية يفترض بالضرورة إمكان مباشرتها دون قيود جائرة تعطلها أو تحد منها، وليس إسباغ حصانة عليها تعفيها من تلك القيود التي تقتضيها مصالح الجماعة، وتسوغها ضوابط حركتها.

ومردود ثانيا: بما جرى به قضاء هذه المحكمة من أن القانون الجنائي وإن اتفق مع غيره من القوانين في سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، إلا أن هذا القانون يفارقها في اتخاذه الجزاء الجنائي أداة لحملهم على إتيان الأفعال التي يأمرهم بها أو التخلي عن تلك التي يدعوهم لاجتنابها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبررا إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإذا كان مجاوزا حدود الدائرة التي ترسم الضرورة تخومها، غدا مخالفا للدستور متى كان ذلك، وكان النص المطعون فيه يتوخى أن يرتبط عائل الأسرة بها، فلا يهجرها من خلال الامتناع عن الإنفاق عليها، وكان التضييق عليه بالحبس يعتبر كافلا لحقوقها، فإن تقرير وإيقاع هذا الجزاء، لا يكون مخالفا للدستور.

وحيث إن ادعاء مخالفة النص المطعون فيه للمادة 40 من الدستور، مردود بأن الدخول في أسرة من خلال تكوينها، يفترض تحمل أعبائها. ولا كذلك غير المتزوجين الذين يختلفون مركزا عن الأولين.

وحيث إن القول بإهدار النص المطعون فيه لضوابط المحاكمة المنصفة المنصوص عليها في المادة 67 من الدستور، مردود بأن هذا النص - وفق مضمونه - لا يخل بالحق في إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة على ضوء مستوياتها في الدول المتحضرة، ولا ينتقص من ضماناتها.

وحيث إن النص المطعون فيه لا يتعارض مع أي حكم آخر في الدستور من أوجه أخرى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية