المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 35 لسنة 9 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

 مبادئ الحكم: دعوى دستورية - شريعة إسلامية - قانون 

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم الأحد 14 أغسطس 1994 م، الموافق 6 من ربيع الأول 1415 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ فاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ عادل عمر شريف

المفوض

وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 35 لسنة 9 "دستورية".

المقامة من

السيد/...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

3- السيدة/ ...

الإجراءات

بتاريخ 5 نوفمبر 1987 أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة 11 مكررا من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية المضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية في فقراتها الأربع.

قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة دفعت فيها أصليا بعدم قبول الدعوى بالنسبة للفقرتين الأولى والأخيرة من المادة 11 مكررا المطعون عليها، واحتياطيا، طلبت رفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

 المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعى عليها الثالثة كانت قد أقامت الدعوى رقم 370 سنة 1984 كلي نفس المنصورة ضد المدعي طالبة التطليق إعمالا لنص المادة 11 مكررا المضافة بالقانون رقم 100 سنة 1985، وذلك لتضررها من زواجه عليها بأخرى. وإذ دفع المدعى - في الدعوى الماثلة - أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية النص سالف الذكر، وكانت محكمة الموضوع قد صرحت له برفع الدعوى الدستورية - بعد أن قدرت جدية دفعه - فقد أقام الدعوى الماثلة.

وحيث إن المدعي ينعى على نص المادة 11 مكررا المشار إليها مخالفته حكم المادة الثانية من الدستور التي تقضي بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وذلك قولا منه بأن القوانين واللوائح التي تخالف هذه المبادئ تقع باطلة عديمة الأثر قانونا، وأن النص المطعون عليه يتعارض مع النصوص القرآنية التي تأذن بالتعدد وترخص فيه، ولم تجز تقييده إلا بشرط العدل بين الزوجات. فضلا عن أن النص المطعون فيه لم يبين ماهية الأضرار المعنوية التي تخول الزوجة الممانعة في الزواج الجديد حق طلب التفريق بينها وبين زوجها. كما علق حقها في هذا الطلب على عدم قبولها التزوج عليها صراحة أو ضمنا، وألزمها رفع دعواها بالتطليق خلال سنة من تاريخ علمها بالزواج الجديد وإلا سقط الحق فيها حال أن الضرر قد يلحقها بعد فوات هذا الميعاد. كذلك أجاز النص المطعون فيه - بمفهوم المخالفة - للزوجة أن تشترط في عقد زواجها عدم الزواج عليها، وهو قيد على تعدد الزوجات يناقض شرط العدل بينهن ولا يتصل به.

وحيث إن المادة 11 مكررا من القانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية المضافة بالمادة الأولى من القانون رقم 100 سنة 1985 والمطعون عليها بعدم الدستورية تنص على أنه "على الزوج أن يقر في وثيقة الزواج بحالته الاجتماعية، فإذا كان متزوجا فعليه أن يبين في الإقرار اسم الزوجة أو الزوجات اللاتي في عصمته ومحال إقامتهن، وعلى الموثق إخطارهن بالزواج الجديد بكتاب مسجل مقرون بعلم الوصول. ويجوز للزوجة التي تزوج عليها زوجها أن تطلب الطلاق منه، إذا لحقها ضرر مادي أو معنوي يتعذر معه دوام العشرة بين أمثالهما، ولو لم تكن قد اشترطت عليه في العقد ألا يتزوج عليها. فإذا عجز القاضي عن الإصلاح بينهما طلقها عليه طلقة بائنة. ويسقط حق الزوجة في طلب التطليق لهذا السبب بمضي سنة من تاريخ علمها بالزواج بأخرى، إلا إذا كانت قد رضيت بذلك صراحة أو ضمنا. ويتجدد حقها في طلب التطليق كلما تزوج بأخرى. وإذا كانت الزوجة الجديدة لم تعلم أنه متزوج بسواها ثم ظهر أنه متزوج، فلها أن تطلب التطليق كذلك".

وحيث إن من المقرر أن المحكمة الدستورية العليا لا يجوز أن تتنصل من اختصاص نيط بها وفقا للدستور أو القانون أو كلاهما. وعليها كذلك وبنفس القدر ألا تخوض في اختصاص ليس لها، ذلك أن إنكارها لولايتها أو مجاوزتها لتخومها ممتنعان من الناحية الدستورية. ولا يجوز من ثم أن تترخص فيما عهد إليها به من المسائل الدستورية كلما كان تصديها لها لازما ولو لابستها صعوبات لها وزنها أو قارنتها محاذير لها خطرها. بيد أن ذلك لا يعنى الاندفاع بالرقابة على الدستورية إلى آفاق تجاوز مقتضياتها أو مباشرتها دون قيود تتوازن بها، بل يتعين أن تكون هذه الرقابة ولضمان فاعليتها محددة طرائقها ومداخلها، جلية أسسها ومناهجها، وأن تمارس في إطار مجموعة من الضوابط التي تصوغها الهيئة القضائية التي تتولاها، ولا تفرضها عليها سلطة أعلى لتحد بها من حركتها، لضمان أن تكون الرقابة على الدستورية منحصرة في حدودها المنطقية، فلا يكون التدخل بها مؤذنا بانفلاتها من كوابحها، بل مقيدا بما يصون موجباتها ولا يخرجها عن حقيقة مراميها كأداة تكفل في آن واحد سيادة الدستور ومباشرة السلطتين التشريعية والتنفيذية لاختصاصاتها التقديرية دون عائق. ومن ثم كان اللجوء إليها مقيدا بضرورة أن يكون التدخل بها لازما ومبررا بوصفها ملاذا نهائيا، وليس باعتبارها إجراء احتياطيا. وتنحل هذه الضوابط في واقعها إلى قيود ذاتية تفرضها على نفسها الهيئة القضائية التي عهد إليها الدستور أو المشرع برقابة الدستورية، وذلك تقديرا منها لخطورة هذه الرقابة ودقتها، ولأن المصالح التي تواجهها فريدة في بابها بالنظر إلى تشابكها واتساعها وتعقدها، واتصالها المباشر بمراكز هؤلاء الذين يمسهم النص التشريعي المطعون فيه، ولو كانوا من غير أطراف المنازعة الدستورية.

وعلى ضوء التنظيم المقارن للرقابة على الدستورية، لا يجوز أن تفصل الهيئة التي تتولاها في دستورية نص تشريعي في غير خصومه تعكس بمضمونها حقيقة التناقض بين مصالح أطرافها، ولا أن تقرر قاعدة دستورية لم يحن بعد أوان إرسائها أو قاعدة دستورية تجاوز باتساعها أو مداها الحدود التي يستلزمها الفصل في النزاع المعروض عليها. وليس لها كذلك الفصل في المسائل الدستورية التي يثيرها النص التشريعي المطعون عليه، إذا كان الطاعن قد أفاد من مزاياه أو كانت الأضرار التي رتبها لا تتصل بالمصالح التي يدعيها اتصالا شخصيا ومباشرا أو كان ممكنا حمل حكمها في النزاع المطروح عليها على أساس آخر. وعليها دوما - وكشرط أولي لممارستها رقابتها على الدستورية - أن تستوثق مما إذا كان ممكنا تأويل النص التشريعي المطعون عليه على نحو يجنبها الحكم بعدم دستوريته. وحيث إن البين من النص المطعون فيه - المادة 11 مكررا من المرسوم بقانون رقم 52 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية - أنه خول الزوجة التي تزوج عليها زوجها - ولو لم تكن قد اشترطت عليه في عقد الزواج ألا يتزوج عليها - أن تطلب الطلاق منه على ضوء شرطين موضوعيين، أولهما: أن يكون قد لحقها ضرر من قبل زوجها - ماديا كان أو أدبيا - على أن يكون هذا الضرر موصوفا من حيث آثاره بأن يبلغ مداه درجة من الإساءة تكون معها العشرة بين أمثالهما أمرا متعذرا. ثانيهما: أن يكون تقدير هذا الضرر عائدا إلى القاضي، وعليه ألا يطلقها من زوجها طلقة بائنة إلا إذا عجز عن الإصلاح بينهما. وسواء توافر هذان الشرطان أم تخلفا، فإن الحق في رفع دعوى التطليق - وفقا لأحكام النص المطعون فيه - مقيد بزمن معين لا يتعداه، إذ يتعين على الزوجة الساعية إلى التفريق بينها وبين زوجها، أن تقيم دعواها خلال سنة من تاريخ علمها بأن زوجها تزوج بغيرها. ويسقط حقها في إقامة دعواها هذه، بفوات ذلك الميعاد، وكذلك برضائها بالزواج الجديد صراحة أو ضمنا.

وحيث إن القيد الإجرائي المشار إليه - وأيا كان وجه الرأي في دستوريته - لا يتعلق إلا بالزوجة التي تزوج عليها زوجها، إذ هي التي قيدها النص السابق بميعاد لرفع دعواها بالتفريق بينها وبين زوجها، واعتبر فوات هذا الميعاد مسقطا للحق فيها، ومن ثم لا تقوم المصلحة الشخصية المباشرة في الطعن عليه إلا بالنسبة إليها. كذلك فإن ما قرره ذلك النص من نزولها عن دعواها تلك بقبولها التزوج عليها صراحة أو ضمنا، إنما يخصها دون غيرها، باعتبار أن هذا النزول الذي قرره النص المطعون فيه قد تم بافتراض أن إرادتها قد اتجهت إليه، ومن ثم تتعلق آثاره بها وحدها. وعلى خلاف ما تقدم، تلك المناعي التي توخى بها المدعي إبطال ذلك النص بمقولة إهداره الحق في التعدد أو تقييده، إذ يعتبر هذا البطلان مرتبطا بالشرطين الموضوعيين اللذين يخولان الزوجة التي تزوج زوجها عليها طلب التطليق منه. ولا يجوز بالتالي لغير زوجها المجادلة في دستوريتهما، وإليهما تمتد مصلحته الشخصية المباشرة التي جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أنها شرط لقبول الدعوى الدستورية، وأن مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازما للفصل في النزاع المرتبط بها والمطروح على محكمة الموضوع.

وحيث إن من المقرر أن الرقابة على الدستورية لا تستقيم موطئا لإبطال نصوص تشريعية يمكن تأويلها - بمختلف طرق الدلالة المعتبرة - على وجه يعصمها من المخالفة الدستورية المدعى بها، بل يجب - وبوصفها رقابة متوازنة لا يجوز التدخل بها إلا لضرورة ملحه تقتضيها - أن تكون مبررة بدواعيها كي لا يكون اللجوء إليها اندفاعا، أو الإعراض عنها تراخيا. وحيث إن الأصل في تشريع التعدد هو النصوص القرآنية، إذ يقول تعالى فيما أوحى به إلى محمد عليه السلام "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم آلا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى آلا تعولوا" وكانت صيغة الأمر تفيد طلب وقوع المأمور به والامتناع عما يضاده، ما لم يقم دليل على وجود قرينة تصرفها عن أصل وضعها إلى الإباحة، وهو ما قرره بعض الفقهاء بقولهم أن صيغة الأمر حقيقة في طلب الفعل، مجاز فيما سواه، وأن إفادتها الإباحة بطريق المجاز يحتاج إلى قرينة، وكانت الآية السابقة لا تفيد نهيا عن الجمع بين أكثر من زوجة، ولا طلبا لازما لإتيان هذا الفعل، ولكنها إذن بالتعدد، وكان من المقرر أن الله تعالى ما شرع حكما إلا لتحقيق مصالح العباد، وما أهمل مصلحة اقتضتها أحوالهم دون أن يورد في شأنها حكما، وكان مسلما كذلك أن ما كان ثابتا بالنص هو المصلحة الحقيقية التي لا تبديل لها، وأن العمل على خلافها ليس إلا تعديا على حدود الله، وكانت المصلحة التي تعارض النصوص القرآنية لا تعتبر مصلحة حقيقية، ولكنها أدخل إلى أن تكون تشهيا وانحرافا فلا يجوز تحكيمها، وكان الله تعالى حين أذن بالتعدد، شرع ذلك لمصلحة قدرها مستجيبا بها لأحوال النفس البشرية، فأقره في إطار من الوسطية التي تلتزم حد الاعتدال، جاعلا من التعدد - وهو ليس إلا جمعا بين أكثر من زوجه بما لا يجاوز الأربع - حقا لكل رجل، ومحليته كل امرأة من الحرائر يستطيبها وتحل له شرعا - ولو لم تكن يتيمه يتحرج من أكل أموالها وظلمها، بل ولو لم يكن وليا عليها - غير مقيد في ذلك بما وراء الأمن من الجور بين من يضمهن إليه باعتبار أن الأصل في المؤمن العدل بين من ينكحهن ليكون أعون على بقاء أصل الاستقرار والاطمئنان، فإن لم يأمن العدل، فعليه بواحدة لا يزيد عليها حتى لا يميل لغيرها كل الميل، ومن ثم كان التعدد مقررا بنصوص قرآنية صريحة لا يرتبط تطبيقها بمناسبة نزولها، ولكنها تعد تشريعا إلهيا لكل زمان ومكان، جوهره العدل، وهو ليس إلا قولا معروفا وامتثالا لأوامر الله تعالى مع مجانبة نواهيه. وكلما استقام التعدد على قاعدة العدل - وهي قيد على الحق فيه ولا تعد سببا لنشوئه - كان نافيا للجور والميل، واستحال أن يتمحض ظلما أو ينحل إلى إضرار بالزوجة التي تعارض اقتران زوجها بغيرها، ذلك أن ما يجوز شرعا لا يؤول إعناتا، ولا وجه للقول بأن الشريعة الغراء - وغايتها إصلاح شئون العباد وتقويمها - تناقض في تطبيقاتها العملية مصالحهم وتعارضها، ولأن ما ينهانا الله عنه يكون ضرره راجحا، وما يأمرنا به وجوبا أو على سبيل الإباحة إنما يكون نفعه غالبا، ولا يعتبر بالتالي قرينا لإيذاء أو مضارة أو سببا لأيهما، وإلا ابتعد عن مصالح العباد، وكان سعيا لما يناقضها، ومدخلا إلى مفاسد مقطوع بها أو راجحا وقوعها بقدر الإثم الملابس لها أو المحيط بها، وهو ما ينزهه الله تعالى عنه حين أذن بالتعدد وجعل الحق فيه مع الأمن من الجور مكتملا ولو عارضته الزوجة التي على العصمة.

وحيث إن النص المطعون فيه قد دل بعبارته على أمرين ينفيان معا قالة مصادرته للتعدد أو تقييد الحق فيه، أولهما: أن حق الزوجة التي تعارض الزواج الجديد في التفريق بينها وبين زوجها، لا يقوم على مجرد كراهيتها له أو نفورها منه لتزوجه عليها، وليس لها كذلك أن تطلب فصم علاقتها بزوجها بادعاء أن اقترانه بغيرها يعتبر في ذاته إضرارا بها، وإنما يجب عليها أن تقيم الدليل على أن ضررا منهيا عنه شرعا قد أصابها بفعل أو امتناع من قبل زوجها، على أن يكون هذا الضرر حقيقيا لا متوهما، واقعا لا متصورا، ثابتا وليس مفترضا، مستقلا بعناصره عن واقعة الزواج اللاحق في ذاتها وليس مترتبا عليها، مما لا يغتفر لتجاوزه الحدود التي يمكن التسامح فيها شرعا، منافيا لحسن العشرة بين أمثالهما بما يخل بمقوماتها لينحل إساءة لها - دون حق - اتصلت أسبابها بالزيجة التالية وكانت هي باعثها، فإن لم تكن هذه الزيجة هي المناسبة التي وقع الضرر مرتبطا بها، فإن حقها في التفريق بينها وبين زوجها يرتد إلى القاعدة العامة في التطليق للضرر المنصوص عليها في المادة 6 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم100 لسنة 1985 والخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية.

متى كان ذلك، فإن النص التشريعي المطعون عليه لا يكون ناهيا عن التعدد أو معدلا لأحكامه - من خلال تحويرها - بما يخرجها عن أصل وضعها، إذ لو كان الأمر كذلك لغدا أمرا محظورا مجرد ولوج الطريق إليه، ولكان مجرد الجمع بين امرأتين منشئا لأولاهن قرينة قانونية يفترض الضرر من خلالها، ولا يجوز التدليل على عكسها، ويكون التفريق بين الزوجين بموجبها واقعا بقوة القانون. وهو ما يؤول إلى إعدام السلطة التقديرية التي يملكها القاضي في تقييم الأضرار التي تدعي الزوجة إلحاقها بها، تحديدا من جهته لأسبابها، ونظرا منه في بواعثها وملابساتها توطئة لتقرير حكمها على ضوء المقاييس الشرعية التي لا تتغير أو تتبدل. كذلك ليس في النص المطعون فيه ما يتضمن تعليقا لآثار الزيجة التالية على إرادة الزوجة التي تعارض بقاءها، إذ لو كان لها ذلك، لجاز أن تنقض بيدها الآثار التي رتبها المشرع على عقد الزواج التالي، وأن تعطل بإرادتها سريانها في حقها حال أن العقود - وإن كان تكوينها عائدا إلى إرادة أطرافها - إلا أن آثارها من عمل المشرع وحده. ثانيهما أن القاضي لا يجيبها إلى طلبها التفريق بينها وبين زوجها بتطليقها منه طلقة بائنة، إلا إذا عجز عن الإصلاح بينهما. وعليه بالتالي قبل فض علاقة الزوجية أن يسعى بينهما معروفا، ناظرا في أحوالهما، مستوضحا خفاياها، وأن يلتمس لذلك كل الوسائل التي تساق إليها - توجيها وتبصيرا وتوفيقا - توطئة لرفع الضرر عنها قدر الإمكان. ويفترض هذا الجهد من القاضي، أن يكون الخلاف بين الزوجين مما يرجى إصلاحه بتهدئة الخواطر بينهما، وإعانتهما على تجاوز مظاهر تفرقهما، بعد تقصي أسبابها، والتوصل إلى حلول يقبلانها معا. ولا كذلك الأمر إذا كان خلافها مع زوجها راجعا إلى مجرد الجمع عليها، إذ يكون الشقاق بينهما عندئذ مترتبا على الزواج اللاحق في ذاته وناشئا عنه وحده. وليس أمام القاضي في مواجهته إلا أحد حلين يخرجان معا عن معنى الإصلاح وينافيان مقاصده أولهما: أن يلزمها النزول عن طلبها التفريق بينها وبين زوجها مع بقاء الزوجة الجديدة في عصمته، وهو ما لن ترضاه. ثانيهما: أن يدعو زوجها إلى مفارقة زوجته الجديدة بالتخلي عنها ولو كان راغبا في بقاء علاقة الزوجية معها لمصلحة يقدرها. وليس ذلك بحال طريق الوسطية بين مطلبين، ولا رأبا للصدع بين موقفين.

وحيث إن النص المطعون فيه - بالأحكام السابق بيانها - يكون قد أقام الحياة الزوجية على أسس لا تصلح إلا بها، جاعلا معيار الضرر الذي يولد الحق في التفريق موضوعيا لا ذاتيا، حائلا دون وقوع علاقة - تتعدد الزوجات فيها مع الآمن من الجور - في الضيق والحرج اللذين تحرص الشريعة الغراء على دفعهما ما وسعها الجهد إلى ذلك إعمالا لقوله تعالى "وما جعل عليكم في الدين من حرج"، مستبعدا من مجال تطبيقه تلك الأضرار التي تعود إلى المشاعر النفسية التي تعتمل في صدر المرأة تجاه ضرتها باعتبار أن ما قد يقع بينهما من تباغض، وما تحملانه لبعضهما من ضغائن تمتد إلى أولادهما، مرجعها تلك الغيرة الطبيعية بين امرأتين تتزاحمان على رجل واحد، ولا يخلص هو لإحداهن، وهي بعد غيرة لا يمكن تنقية النفوس البشرية منها، ولم يقصد النص المطعون فيه إلى إزالتها، ولا يجوز أن تخل بمقاصد التعدد التي تربو عليها والتي يقتضيها صون عرض المرأة ونسلها حتى لا تتعرض لهوان أو ضياع أو ابتذال بما يناقض آدميتها أو يمس عفتها ويؤول - بحرمانها من زوج يرعاها - إلى عزلتها وانكفائها على نفسها بإيصاد طريقها إلى بناء أسرة تتواصل حياتها معها، وتكون أكفل لإصلاح أمرها بما تفئ به عليها.

وحيث إن ما قيل من أن النص المطعون فيه أجاز بمفهوم المخالفة للزوجة أن تضمن عقد زواجها شرطا بألا يتزوج زوجها عليها، منشئا بذلك قيدا جديدا على تعدد الزوجات يجاوز حدود العدل بينهن، مردود أولا: بأن إعمال النص المطعون فيه لا يستقيم إلا بافتراض أن الزوجة التي تقيم دعواها للتفريق بينها وبين زوجها لازال عقد زواجها منه قائما، وأن حقها في التفريق بينها وبين زوجها ليس معلقا على إرادتها، بل مرتبطا بوجود ضرر محدد وفق مقاييس شرعية، ناشئا عما أتاه زوجها معها إخلالا منه بحسن العشرة بما ينافي حدود إمساكها معروفا، وهو بعد ضرر لا يليق بأمثالهما، وليس مترتبا على الزيجة اللاحقة في ذاتها، بل وقع بمناسبتها. متى كان ذلك، فإن افتراض قيام المرأة التي تزوج زوجها عليها بحل عقدة النكاح بينها وبين زوجها عن طريق فسخها بإرادتها المنفردة إعمالا من جانبها لشرطها بعدم التزوج عليها - بفرض وجوده في عقدها - يكون غير متصور في تطبيق أحكام النص المطعون فيه ومردود ثانيا: بأن قاعدة الفقه الحنبلي فيما تتضمنه العقود بوجه عام من الشروط، وما يرد منها بوجه خاص في عقد الزواج، هو إطلاقها لا تقييدها، وإباحتها لا منعها، ما لم يقم دليل شرعي على غير ذلك. وهم يفرعون هذه القاعدة على مبدأ حرية التعاقد، وأن الناس على شروطهم لا يتحولون عنها إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما. وقد أجازوا - وعلى ضوء نظرتهم إلى الشروط في الأنكحة - شرط المرأة على زوجها ألا ينقلها من دارها أو بلدها أو أن يكون ذا مال. وقطعوا بأن شرطها ألا يتزوج عليها لا يحرم حلالا، ذلك أن فائدة هذا الشرط تعود إليها ومنفعتها فيه، وما كان من مصلحة العاقد كان من مصلحة عقده، وهو بعد شرط لا يخل بمقاصد النكاح التي قام الدليل الشرعي على طلبها. وإذ كان إنفاذ العهد مسئولا، وكان من المقرر أن مقاطع الحقوق عند الشروط، فإن نكول زوجها عن تعهده بعدم الزواج عليها يكون مخالفا لقاعدتهم في إطلاق الشروط وعدم تقييدها استصحابا لأصل إباحتها، وهي قاعدة عززوها بما نقل عن الرسول عليه السلام من أن "أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج". ومن ثم كان لها، - وقد اخل زوجها بشرطها - وقام الدليل بالتالي على أن رضاها - وقد كان قواما لعقد زواجها - قد احتل، الخيار بين إبقاء علاقتها الزوجية أو حلها بفسخها. 

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان النص المطعون فيه لا يعارض التعدد، ولا ينظر إليه باعتباره ذريعة إلى حرام، ولا يتوخى كذلك بلوغ غاية بذاتها يكتنفها الإثم أو يتصل بها، وجب القول بأن الدائرة التي يعمل في نطاقها، هي دائرة المضار الفعلية إذا كان مرجعها فعل أو امتناع أتاه زوجها قبلها مرتبطا بالزيجة التالية، ومتصلا بما يكون عليه حال العشرة بينهما بعد تزوجه عليها مما لا يأذن به الشرع أو يرخص فيه. ومن ثم يكون هذا النص منطويا على تطبيق خاص للتطليق للضرر لإفراده صورا بعينها يكون ذلك النص متعلقا بها منصرفا إليها ودائرا حولها. وهو باعتباره كذلك يعد فرعا لأصل يرد إليه، وليس للفرع امتياز على الأصل الذي يلحق به ويقتضي ذلك أن يفسر النص المطعون فيه على نحو يوفق بين أحكامه وقوله تعالى "وعاشروهن بالمعروف" وكذلك على ضوء القاعدة الكلية التي صاغها الرسول عليه السلام بقوله "لا ضرر ولا ضرار"، وهي قاعدة رئيسية من أركان الشريعة الإسلامية تعددت تطبيقاتها وإن كانت محكمة في إيجازها، وتكشف عنها نصوص قرآنية مختلفة مواضعها منها قوله سبحانه "ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" وقوله جل علاه "ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن" وقوله تعالى "فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف" وحكمها يفيد دفع الضرر قبل وقوعه بطرق الوقاية الممكنة، ودفعه بعد حدوثه بما يستطاع من التدابير التي تزيله. وعلى ضوئها لا يجوز الإضرار - ولو على سبيل المقابلة - إذا كان ثأرا محضا يزيد من الضرر ولا يفيد إلا في توسيع دائرته. كما لا يجوز أن تقدم المنافع التي يمكن جلبها على مواجهة مخاطر المفاسد ودرء عواقبها. وعنها فرع الفقهاء عددا من القواعد التي تندرج تحتها، وتعتبر تخريجا عليها، منها أن الضرر يدفع قدر الإمكان، وأن الضرر يزال، وأن الضرر لا يزال بمثله كي لا يتفاقم مداه، وأن تزاحم ضررين يقتضي اختيار أهونهما دفعا لأعظمهما، وأن تحمل الضرر الخاص يكون مطلوبا كلما كان ذلك لازما لرد ضرر عام.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان المالكية قد أثبتوا حدود قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" ببيان بعض تطبيقاتها في نطاق العلاقة الزوجية، وبتوكيدهم أن الأضرار التي تخول الزوجة حق حل عقدة النكاح بينها وبين زوجها هي التي تكون كذلك بالمقاييس الشرعية، ولا اعتداد في توافرها وقيام سببها بما تراه هي صوابا أو انحرافا عن الحق، أو بما يكون كامنا في نفسها قبل زوجها بغضا أو ازدراء أو نفورا، وإنما مرد الأمر دوما إلى ما تقرر الشريعة الغراء اعتباره ضررا، وكانت هذه القاعدة التي فصلها المالكية هي الأصل العام في التطليق للضرر، فإن النص المطعون فيه يعتبر من تطبيقاتها، وإن كان من قبيل التنظيم الخاص لبعض صورها، وهو تنظيم لا ينحي القاعدة العامة المنصوص عليها في المادة 6 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 أو يعارضها، وإنما يتقيد بإطارها العام الذي يخول كل زوجة حق التفريق بينها وبين زوجها إذا لم يعد مستطاعا - على ضوء الأضرار التي ألحقها بها - دوام العشرة بين أمثالهما، ولا منافاة في ذلك كله لمبادئ الشريعة الإسلامية القطعية في ورودها ودلالتها، بل هو التزام أمين بها، ذلك أن ما يصدر عن الزوج - إيذاء وإعناتا وقهرا - يعتبر تعديا عليها يحملها ما لا تطيق، ويخرج بالتالي عن نطاق الحماية الشرعية. وما النص المطعون فيه - في نطاق الشرطين الموضوعيين اللذين أسلفنا بيانهما - إلا تفريعا على هذا الأصل العام، ولابد أن يحمل على معناه.

وحيث إن القول بأن الشريعة العامة للتطليق للضرر تدل بشمول معناها وتنامي تطبيقاتها على اتساعها لكل صوره بما في ذلك تلك التي عينها النص المطعون فيه، لا يعني - وبفرض صحته - أن التنظيم الخاص الذي أفرده ذلك النص لصور بذاتها من الأضرار تكون الزيجة التالية هي مناسبة إحداثها ويجوز التفريق بين الزوجين بموجبها - قد صار مخالفا للدستور، ذلك أن اندراج نص تشريعي معين في المفهوم العام لنص آخر، وإمكان الاستغناء بالتالي عن الفرع لعموم الأصل، أوثق اتصالا بالوسائل الفنية لصياغة النصوص التشريعية، ولا ينحل من هذه الناحية وحدها - بالتالي - إلى مخالفة دستورية.

وحيث إن من المقرر أنه إذا حددت المحكمة الدستورية العليا - بطرق الدلالة المختلفة - معنى معينا لمضمون نص تشريعي، منتهية من ذلك إلى الحكم برفض المطاعن الدستورية الموجهة إليه، فإن هذا المعنى يكون هو الدعامة التي قام عليها هذا الحكم، لتمد إليه مع المنطوق الحجية المطلقة والكاملة التي أسبغها قانون المحكمة الدستورية العليا على أحكامها في المسائل الدستورية باعتبارهما متضاممين وكلا غير منقسم. ولا يجوز بعدئذ لأية جهة - ولو كانت قضائية - أن تعطي هذا النص معنى مغايرا يجاوز تخوم الدائرة التي يعمل فيها محدد إطارها على ضوء قضاء المحكمة الدستورية العليا، وإلا كان تصرفها ساقطا ومنعدما.

وحيث إن النص المطعون عليه - في الحدود السالف بيانها - لا يتعارض مع أحكام الدستور من أوجه أخرى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

 

 

العودة للصفحة الرئيسية