المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 35 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

 مبادئ الحكم: الدولة القانونية - جمارك - حرية التعاقد - حرية شخصية - دعوى دستورية - دول - قانون

نص الحكم

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 2 أغسطس سنة 1997 م، الموافق 28 ربيع الأول 1418 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ فاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 35 لسنة 17 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد/ الممثل القانوني لشركة طيران الخليج

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس مجلس الوزراء

3- السيد/ وزير السياحة والطيران المدني

4- السيد/ الممثل القانوني لمؤسسة مصر للطيران

الإجراءات

في الثامن والعشرين من مايو سنة 1995، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طلبا للحكم بعدم دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة 35 من القانون رقم 119 لسنة 1983 فيما قرره من تولي مؤسسة مصر للطيران الوكالة أو الكفالة عنها.

قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعى عليها الرابعة -مؤسسة مصر للطيران - كانت قد أقامت الدعوى رقم 2276 لسنة 1994 مدني كلى جنوب القاهرة ضد المدعية ابتغاء القضاء بأحقيتها في أن تكون وكيلا عاما عنها بجمهورية مصر العربية، مع إلزامها بغرامة قدرها ألف جنيه عن كل يوم يمضي من تاريخ صدور الحكم دون قيامها بذلك، مسندة طلبها الأول إلى نص المادة 35 من قانون رسوم الطيران المدني ومقابل استغلال حقوق النقل الجوي الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 1983 الذي يخولها هذا الحق.

وبتاريخ 28/11/1994 قضت تلك المحكمة بتعيين المدعى عليها الرابعة وكيلا عاما عن الشركة المدعية في مصر؛ ورفضت ماعدا ذلك من الطلبات. وقد استأنف الطرفان ذلك الحكم أمام محكمة استئناف القاهرة بالاستئنافين المقيدين بجدولها برقمي 359 و522 لسنة 112 قضائية. وقررت محكمة الاستئناف ضم الاستئناف الثاني إلى الأول ليصدر فيهما حكم واحد. وبجلسة 29/3/1995 - المحددة لنظره - قدمت المدعية مذكرة دفعت فيها بعدم دستورية المادة 35 من القانون رقم 119 لسنة 1983 المعدل بالقانون رقم 209 لسنة 1991، وذلك فيما نصت عليه من "وتتولى مؤسسة مصر للطيران الوكالة أو الكفالة في هذه الحالة". وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع وصرحت للمدعية بإقامة دعواها الدستورية، فقد أقامتها. وبجلسة 13/12/1995 قضت المحكمة الاستئنافية بوقف الاستئنافين سالفي الذكر وقفا تعليقيا لحين الفصل في الدعوى الدستورية الراهنة.

وحيث إن المادة 35 من قانون رسوم الطيران المدني ومقابل استغلال حقوق النقل الجوي وإشغال واستغلال مباني وأراضي المواني الجوية والمطارات الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 1983 كانت تنص - في أصل نشأتها - على أنه: "لا يجوز لأية شركة أو منشأة نقل جوي أجنبية فتح فرع أو مكتب لها في جمهورية مصر العربية إلا على أساس مبدأ المعاملة بالمثل؛ فإذا كانت الدولة التي تتبعها الشركة أو المنشأة تشترط لذلك تعيين وكيل أو كفيل فيتعين أن يكون لها بالمثل وكيل أو كفيل في مصر؛ وتتولى مؤسسة مصر للطيران الوكالة أو الكفالة في هذه الحالة".

وبتاريخ 9 من يوليو سنة 1991 صدر القانون رقم 209 لسنة 1991 بتعديل نص المادة 35 من قانون رسوم الطيران المدني المشار إليه، ليجري على النحو التالي: "إذا كانت الدولة الأجنبية التي تتبعها شركة أو منشأة النقل الجوي تشترط لممارسة الشركات أو المنشآت المصرية نشاطها فيها، ضرورة أن يكون لها وكيل أو كفيل في هذه الدولة، فيتعين أن يكون لهذه الشركات أو المنشآت الأجنبية وكيل أو كفيل في مصر؛ وتتولى مؤسسة مصر للطيران الوكالة أو الكفالة في هذه الحالة.

وفي حالة مخالفة أحكام هذه المادة تلتزم الشركات أو المنشآت الأجنبية بأداء تعويض عن مبيعاتها في مصر يحسب بذات النسب ووفقا للقواعد التي يتم على أساسها محاسبة الشركات والمنشآت الوطنية في الدول الأجنبية". وقد عمل به اعتبارا من 18 أغسطس سنة 1991.

وحيث إن المدعية تنعى على النص المطعون فيه فيما قرره من تولي مؤسسة مصر للطيران الوكالة أو الكفالة عن شركات ومنشآت الطيران الأجنبية في مصر؛ مخالفته لنصوص المواد 34 و40 و41 من الدستور قولا منها بأن المشرع قد عمد إلى فرض هذه المؤسسة بالذات وتعيينها وكيلة عن تلك الشركات الأجنبية على غير إرادتها واختيارها دون غيرها من المؤسسات والشركات والأفراد المرخص لهم قانونا بالقيام بأعمال الوكالة عن شركات الطيران الأجنبية في مصر والتي يمارسونها ويباشرونها فعلا من قديم وحتى الآن، وتمكينها بذلك - وهي الشركة المنافسة -من الهيمنة على نشاط المدعية، والتصرف في كافة حقوقها وأموالها جبرا عنها، وهو ما يشكل عدوانا على ملكيتها لتلك الأموال متمثلا في حرمانها من حقها في استغلالها والانتفاع بها والتصرف فيها بملء إرادتها؛ فضلا عن أن فرض الوكالة وشخص الوكيل على الموكل يصطدم والحرية الشخصية المفترضة في عقد الوكالة بالذات، وقوامه الثقة في شخص الوكيل؛ سيما وأن المدعية كانت وما تزال متعاقدة مع إحدى الشركات السياحية على الوكالة عنها في مباشرة نشاطها في نقل الركاب وشحن البضائع بطريق الجو.

وحيث إن المدعية قدمت كذلك مذكرة بدفاعها، قررت فيها مخالفة النص المطعون فيه لأحكام المواد  34 و40 و41 من الدستور، مستندة في ذلك إلى أن هذا النص جعل مصر للطيران وكيلا وحيدا وجبريا عن شركات الطيران الأجنبية التي تباشر نشاطها في جمهورية مصر العربية؛ مجردا بذلك ملكيتها من لوازمها؛ ومقيما مركز الأجنبي في مصر، على قاعدة "الحرمان الأصلي" من الحقوق، ولو كانت تقع في نطاق الحدود الدنيا لمعاملتهم في الدول الأجنبية التي يقيمون فيها؛ وبما يناقض قاعدة "الاعتماد المتبادل" التي يصونها الدستور، ويخل بأصل مساواتهم بالمواطنين، وهو أصل لا يجوز تقييده إلا استثناء؛ ومتبنيا كذلك تمييزا تحكميا بين المواطنين المهيأين كوكلاء أو كفلاء عن شركات الطيران الأجنبية عند مباشرتها لبعض مظاهر نشاطها في مصر؛ ومتضمنا - فوق هذا - انحرافا Détournement de procedure بالإجراء، مع التذرع بظاهر النصوص القانونية لستر حقيقتها Couvert legislation؛ بل إن الاحتيال على الدستور Fraude à la constitution يبدو جليا من خلال تقييد إرادة الشركة الأجنبية في اختيار وكيلها، بما يهدر أصل الحرية في التعاقد، وهو مبدأ متضمن في الحرية الشخصية التي لا يقيمها غير اعتبار العقود شرائع لأطرافها.

وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية؛ وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسائل الدستورية لازما للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك؛ وكانت المدعى عليها الرابعة قد أقامت دعواها المستأنف حكمها مضمنة طلباتها الختامية، الحكم بأحقيتها في أن تكون وكيلا عن المدعية في مصر، وذلك بحسبانها من شركات النقل الجوي التابعة لدولة أجنبية تشترط لممارسة منشآت النقل الجوى المصرية نشاطها فيها أن يكون لها وكيل أو كفيل من رعاياها؛ وكان تسليط الرقابة الدستورية على عجز الفقرة الأولى من المادة 35 من قانون رسوم الطيران المدني - المطعون عليها - والتي تقضي بأن تكون مؤسسة مصر للطيران وكيلا - بقوة القانون - عن شركات ومنشآت النقل الجوى الأجنبية التي تباشر نشاطها في مصر؛ هو ما تقوم به مصلحة المدعية في الطعن الماثل؛ فإن نطاق المسائل الدستورية التي تدعى هذه المحكمة للفصل فيها يتحدد على ضوء حكمها هذا، ولا يمتد لغيره من أجزاء النص المطعون فيه.

وحيث إن البين من مضبطة الجلسة السادسة والسبعين للفصل التشريعي السادس لمجلس الشعب المعقودة صباح يوم الاثنين الموافق 3 من يونيه 1991، إن أحد الأعضاء قرر أن مضمون المادة 35 - المطعون على عجز فقرتها الأولى - ربما كان مفهوما حين كانت شركة مصر للطيران هي وحدها التي تعمل في مجال الطيران بمصر، أما وقد أبيح للشركات الخاصة حرية العمل في هذا المجال، فإذا كانت الدولة الأجنبية التي تتبعها شركة أو منشأة النقل الجوي تشترط لممارسة الشركات أو المنشآت المصرية نشاطها فيها ضرورة أن يكون لها وكيل أو كفيل بها، فإن معاملتها بالمثل بالنسبة إلى نشاطها في مصر، أمر لا غبار عليه، ولكن لا يصح أن تكون شركة بعينها - هي شركة مصر للطيران - وكيلا أو كفيلا عن الشركة أو المنشأة الأجنبية التي تعمل في مصر، والتي تنافسها شركة مصر للطيران، وإلا كان ذلك إخلالا بمبدأ المساواة، وانحرافا عن العدل، وخروجا على المنطق، وأن درء ذلك لا يكون إلا بضمان حق الشركة الأجنبية في أن تتولى بنفسها اختيار من يمثلها في مصر حين تباشر نشاطها فيها.

وحيث إن الدولة القانونية - محدد مفهومها على ضوء أحكام المواد 1 و3 و4 و56 من الدستور، ووفق ما جرى به قضاء هذه المحكمة - هي التي تقرر لمن يقيمون على إقليمها تلك الحقوق والحريات والأساسية التي يتوافق مضمونها مع الضوابط التي التزمتها الدول الديموقراطية باطراد في مجتمعاتها، واستقر نهجها على التقيد بها في مظاهر سلوكها على اختلافها، فلا تنزل بالحماية التي توفرها لمن يمارسونها عما يكون لازما لضمان فعاليتها.

وحيث إن للدول - على صعيد علاقاتها الدولية - حقوقا أساسية تتمثل في ضمان استقلالها؛ ومباشرتها لولايتها فوق إقليمها؛ ودفاعها الشرعي ضد العدوان عليها؛ وتكافئها قانونا مع غيرها من الدول.بيد أن حقوقها هذه تقابلها وتوازيها واجباتها التي تمنعها من التدخل في الشئون الداخلية لغيرها من الدول؛ وتحول بينها وإثارة القلاقل ضدها؛ وتقيدها كذلك بصون حقوق الإنسان وتنفيذ التزاماتها الدولية بحسن نية، وبمراعاة أن تكون الوسائل السلمية وحدها طريقا لفض نزاعاتها.

وتدل النظرة المتعمقة لحقوق الدول وواجباتها الأساسية على قبولها فيما بينها بعلو قواعد القانون الدولي وسيادتها، وأن صلاتها الودية وفقا لميثاق الأمم المتحدة تقتضيها أن تتعاون مع بعضها لضمان تقدمها، ولبناء أسس سليمة لحسن الجوار تتهيأ بها فرص تعايشها وتداخل مصالحها.

وحيث إن استقلال الدول عن بعضها، وتكافئها في السيادة فيما بينها، وإن خول كلا منها، أن تنظم شروط دخول غير مواطنيها إليها، وأن تقرر كذلك قواعد ممارستهم لنشاطهم فيها على ضوء مصالحها القومية التي تمليها توجهاتها الاقتصادية وسياستها الخارجية، إلا أن سلطتها هذه لا يجوز القول بإطلاقها؛ وإنما تقيدها تلك القواعد الآمرة التي ارتضتها أسرة الدول سلوكا لأعضائها يبلور أعرافها التي استقر العمل عليها فيما بينها؛ بما مؤداه أن القواعد التي تنظم بها الدول شئون غير مواطنيها الذين يعبرونها أو يستقرون فيها، وإن لم تكن هي ذاتها التي تشبههم بمواطنيها، إلا أنها تمثل بمستوياتها تلك الحدود الدنيا التي لا يجوز النزول بمعاملتهم عنها، والتي لا تستقيم حياتهم بدونها The international minimum standard، فلا تقاس تصرفاتها قبلهم إلا على ضوئها. فكلما كان العمل الصادر عنها متضمنا اغتيالا للحقوق التي كفلتها هذه المعايير، أو تحديدا لآثارها، أو كان دالا على سوء نيتها، أو إخلالها قصدا بواجباتها، أو منحدرا - بوجه عام - بمعاملتهم إلى ما دون مستوياتها الدولية التي لا يجوز التخلي عنها، كان إبطال هذا العمل - من خلال الرقابة التي تفرضها هذه المحكمة في شأن الشرعية الدستورية - لازما The propriety of governmental acts should be put to the test of international standards the treatment of an alien, in order to constitute an international delinquency should amount to an outrage, to bad faith, to willful neglect of duty, or to an insufficiency of governmental action so far short of international standards that every reasonable and impartial man .would readily recognize its insufficiency

وحيث إن إبداء بعض الدول لتخوفها من تطبيق المعايير الدولية في شأن الحقوق التي تكفلها لغير المواطنين المقيمين بإقليمها، تقديرا بأن إهمالها لها قد يتخذ ذريعة للتدخل في شئونها، مردود أولا: بأن الحقوق التي تكفلها هذه المعايير لهؤلاء يتصل أغلبها بحقهم في الحياة، وضد التمييز غير المبرر، وبحرمة حياتهم الخاصة، وصون شرفهم وسمعتهم، وكذلك بحرية العقيدة، وبضمان حريتهم الشخصية من خلال تكامل مقوماتها؛ وهي بعد حقوق تنتظمها تلك القيم التي تتقاسمها الجماعة الإنسانية، والتي لا يمكن إرجاعها إلى عصر معين، ولا إلى زمن محدد، ولا القول بأنها نتاج ثقافة بذاتها، ولكنها تنظر إلى الإنسان - وطنيا كان أم أجنبيا - بوصفه بشرا سويا. ومردود ثانيا: بأن الضوابط التي تطبقها هذه المحكمة في مجال الشرعية الدستورية، لا شأن لها بإقحام إحدى الدول نفسها في الشئون الداخلية لغيرها، وإن أثار ذلك مسئوليتها وفقا لميثاق الأمم المتحدة.

وحيث إن من المقرر كذلك، أن المعايير الدولية المتقدم بيانها، لا يجوز إهدارها من خلال أعمال تناهضها تأتيها الدول التي يقيم غير المواطنين بها، ولو بررتها بمجرد تطابقها مع تشريعاتها المعمول بها في شأن مواطنيها، ذلك أن الحماية التي تكفلها تشريعاتها هذه، قد تقل عن تلك التي توفرها المعايير الدولية التي أنتجتها واقعة اتصال الدول فيما بينها، وضرورة تحقيق نوع من التداخل بين مصالحها، فلا يكون الفصل بين الأشخاص المعنيين بها ودولهم، مقبولا.

ولئن جاز القول بأن تلك المعايير التي قبلتها الدول فيما بينها، محددة بها أعرافها في مجال العلائق بينها وبين غير مواطنيها، قد يكتنفها - من بعض جوانبها - قدر من الغموض في مجال تطبيقها، إلا أن وجودها قانونا حقيقة مستعصية على الجدل، ولا يعدو الإخلال بها أن يكون نكولا من الدول التي نقضتها عن واجباتها الدولية There has grown up in the field of international relations, a body of customs defining with more or less certainty the duties owing by all nations to alien residents  (Hins V. Davidourtz, 213 U. S. 25 per justice Black, at. P. 65 1941).

وحيث إنه استصحابا لهذه المعايير، وتوكيدا لضرورة العمل بمقتضاها، صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 40/441 المؤرخ 13/12/1985 متضمنا إعلانها في شأن حقوق غير المواطنين في البلد الذي يعيشون فيه، مقررا سريان أحكامه في شأن كل فرد يوجد في إحدى الدول ولا يكون من رعاياها؛ ومنوها بضرورة أن تتقيد في كل تشريعاتها التي تنظم بها دخول غير مواطنيها إليها، وشروط إقامتهم فيها، وما يمكن أن يقوم بينهم وبين رعاياها من الفروق، بالحدود التي رسمتها التزاماتها الدولية، بما في ذلك ما يتعلق منها بحقوق الإنسان؛ ومبينا على الأخص أن حقهم في الحياة، وكذلك تأمين أشخاصهم ضد الاعتقال أو الاحتجاز غير المشروع، وصون حريتهم الشخصية التي لا يجوز الإخلال بها إلا وفقا للقانون، مما ينبغي أن يكون مكفولا بقوانينها المحلية، ودون إخلال بالتزاماتها الدولية المتصلة بها.

ويؤكد هذا الإعلان كذلك، حق هؤلاء في حرية التعبير، وتملك الأموال، والاجتماع ومغادرة البلد، وذلك كله وفق القيود التي يجوز أن تفرضها الدول الديموقراطية في مجتمعاتها لأغراض محددة، يندرج تحتها حماية أمنها القومي، ودعم نظامها العام، وصون أخلاقها، مع ضمان حقوق الآخرين، وبما لا يخل بغيرها من الحقوق المنصوص عليها في هذا الإعلان، وكذلك تلك التي قررتها المواثيق الدولية التي تنظمها.

وحيث إن المعايير الدولية التي تطبقها الدول على غير مواطنيها، لا يقتصر سريانها على من يكون منهم فردا، ولكنها تمتد كذلك إلى كل مجموع منهم تضمهم وحدة قانونية لها ذاتيتها واستقلالها.

وحيث إن حرية التعاقد، قاعدة أساسية يقتضيها الدستور صونا للحرية الشخصية التي لا يقتصر ضمانها على تأمينها ضد صور العدوان على البدن، بل تمتد حمايتها إلى أشكال متعددة من إرادة الاختيار وسلطة التقرير التي يملكها كل شخص، فلا يكون بها كائنا يحمل على ما لا يرضاه، بل بشرا سويا بيد أن حرية التعاقد هذه التي تعتبر في القضاء المقارن حقا طبيعيا لازما لكل إنسان تطويرا لإرادة الخلق والإبداع؛ وانحيازا لطرائق في الحياة يختارها، ويكون بها أكثر اطمئنانا لغده؛ يستحيل وصفها بالإطلاق، بل يجوز فرض قيود عليها وفق أسس موضوعية تكفل متطلباتها دون زيادة أو نقصان، فلا تكون حرية التعاقد بذلك إلا حقا موصوفا A qualified right، ذلك أن الحرية الشخصية لا يكفلها انسيابها دون عائق، ولا جرفها لكل قيد عليها، ولا علوها على مصالح ترجحها، وإنما يدنيها من أهدافها قدر من التوازن بين جموحها وتنظيمها؛ بين تمردها على كوابحها والحدود المنطقية لممارستها؛ بين مروقها مما يحد من اندفاعها، وردها إلى ضوابط لا يمليها التحكم. وفي إطار هذا التوازن، تتحدد دستورية القيود التي يفرضها المشرع عليها، تقديرا بأن الحرية الشخصية ليس لها من نفسها ما يعصمها مما يكون ضروريا لتنظيمها، وأن تعثرها لا يكون إلا من خلال قيود ترهقها دون مقتض.

وحيث إن من المقرر كذلك أن حرية التعاقد فوق كونها من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، فإنها كذلك وثيقة الصلة بالحق في الملكية؛ وذلك بالنظر إلى الحقوق التي ترتبها العقود فيما بين أطرافها، أيا كان المدين بأدائها. ولئن جاز القول بأن تأمين الجماعة لمصالحها في مجال الصحة والأمن ودعم آدابها ورخائها العام، قد يقتضيها إلغاء عقود لا اعتبار لها، كتلك التي تدعو للجريمة وتنظمها؛ أو تعرقل دون حق تدفق التجارة في سوق مفتوحة تحكمها قوانين العرض والطلب؛ وكانت السلطة التشريعية وإن ساغ لها استثناء أن تتناول أنواعا من العقود لتحيط بعض جوانبها بتنظيم آمر يكون مستندا إلى مصلحة مشروعة؛ إلا أن هذه السلطة ذاتها لا يسعها أن تدهم الدائرة التي تباشر فيها الإرادة حركتها، فلا يكون لسلطانها بعد هدمها من أثر، ذلك أن الإرادة وإن لم يكن دورها كاملا في تكوين العقود وتحديد الآثار التي ترتبها، بل يجوز أن يتدخل المشرع ليحملها ببعض القيود التي لا يجوز الاتفاق على خلافها، إلا أن الدائرة المنطقية التي تعمل الإرادة الحرة في نطاقها - والتي توازن انفلاتها بضرورة ضبطها بدواعي العدل وبحقائق الصالح العام - لا يجوز اغتيالها بتمامها، وإلا كان ذلك إنهاء لوجودها، ومحوا كاملا للحرية الشخصية في واحد من أكثر مجالاتها تعبيرا عنها، ممثلا في إرادة الاختيار استقلالا عن الآخرين، بما يصون لهذه الحرية مقوماتها، ويؤكد فعاليتها.

وحيث إن التطور الراهن للحقوق الأساسية للإنسان، قد جعل منها جزءا لا يتجزأ من المعايير الدولية التي تبنتها الأمم المتحضرة كقاعدة للتعامل مع غير المواطنين المقيمين بها؛ وكان التمييز غير المبرر في مجال مباشرتها - ولو كان مبناه كون من يطلبها أجنبيا - يعتبر نقضا لها يخل بالحماية المقررة على صعيد تطبيقها؛ وكانت المعايير الدولية لا يجوز تفسيرها بأنها تخول أحدا أو جماعة أو تنظيما سياسيا، أن ينال من الحقوق التي تقارنها، سواء بمحوها أو بإيراد قيود في شأنها تزيد عن تلك التي ترتضيها الدول الديموقراطية في مجتمعاتها؛ وكانت الحرية الشخصية وما يتصل بها من إرادة الاختيار - وعلى ضوء الضوابط الموضوعية التي يحيطها المشرع بها - تقعان في نطاق الحقوق التي تكفلها المعايير الدولية لغير المواطنين؛ وكان الحق في إدارة أعمال بذواتها، فرعا من جواز مباشرتها قانونا، ويفترض أن تخلص لأصحابها تنظيم شئونها، بما في ذلك اختيار وكلائهم أو كفلائهم في مجال تسييرها، فلا ينهض بمسئوليتها غير من يصطفونهم لثقتهم في قدراتهم؛ وكان لا يجوز للمدعية - وفقا للنص المطعون فيه - أن تباشر عملياتها في مصر إلا من خلال شركتها الوطنية التي تمثلها مصر للطيران دون غيرها، ولو كانت الدولة الأجنبية - التي تباشر مصر للطيران نشاطها فيها - لا تقتضي مثل هذا الشرط منها؛ فإن النص المطعون فيه يكون بذلك قد نقض مبدأ المعاملة بالمثل المقرر بصدر فقرته الأولى، وجاوز كذلك الحدود المنطقية التي تعمل فيها إرادة الاختيار، وهي فرع من الحرية الشخصية تقيمها على سوائها، فلا تنفصل عنها، وأهدر بالتالي نص المادة 41 من الدستور.

وحيث إن اتصال الحرية الشخصية - في دائرة العقود بما ينشأ عنها من الحقوق لأطرافها - بالحق في الملكية، مؤداه أن تحدد المدعية بنفسها نطاق حقوقها والتزاماتها من خلال انتقائها - من بين الوكلاء أو الكفلاء الذين يتزاحمون فيما بينهم لمباشرة أعمالها في مصر - واحدا من مجموعهم يكون اختياره وفق تقديرها ميسرا لمصالحها على ضوء ما تراه من الشروط ملبيا لها؛ فإن حرمانها من هذا الحق - عن طريق إلزامها بأن تكون مصر للطيران دون غيرها وكيلا أو كفيلا عنها - إنما ينافي الحق في الملكية الخاصة التي صانها الدستور بنص المادتين 32 و34.

وحيث إن اعتبار مصر للطيران - دون غيرها - وكيلا أو كفيلا عن المدعية، مؤداه إقصاء غيرها من المواطنين عن مباشرة مهامها في نطاق وكالتها أو كفالتها هذه، مما يخل بتساويهم معها في الحقوق التي كفلها الدستور، بالمخالفة لنص مادته الأربعين.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 35 من قانون رسوم الطيران المدني ومقابل استغلال حقوق النقل الجوى وإشغال واستغلال مباني وأراضى المواني الجوية والمطارات الصادر بالقانون رقم 119 لسنة 1983، وذلك فيما نصت عليه من "وتتولى مؤسسة مصر للطيران الوكالة أو الكفالة في هذه الحالة" وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

العودة للصفحة الرئيسية