المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 31 لسنة 10 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: اختصاصات - تأديب - حصانة قضائية - حق التقاضي - دعوى دستورية - رقابة قضائية - قانون - قضاة - مبدأ المساواة

نص الحكم
باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة 7 ديسمبر سنة 1991 م

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف ومحمد علي عبد الواحد

أعضاء

وحضور السيد المستشار/ السيد عبد الحميد عمارة

المفوض

وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 31 لسنة 10 قضائية "دستورية".

الإجراءات

بتاريخ 6 يوليه سنة 1988 أودع الأستاذ /... المحامي نائبا عن الأستاذ/... المحامي بصفته وكيلا عن المدعي السيد/... قلم كتاب المحكمة صحيفة هذه الدعوى طلب فيها الحكم بعدم دستورية القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية والمواد 99، 107، 108 منه.

وقدمت هيئة قضايا الدولة، مذكرة طلبت فيها أصليا الحكم بعدم قبول الدعوى، واحتياطيا برفضها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن مجلس تأديب القضاة كان قد قضى بعزل المدعي من وظيفته القضائية إعمالا للمواد 99، 107، 108 من القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية، فطعن على قرار عزله أمام الدائرة المدنية بمحكمة النقض - دائرة طلبات رجال القضاء - حيث قيد طلبه تحت رقم 20 لسنة 57 قضائية.

وأثناء نظر هذه الدائرة لذلك الطلب، دفع بعدم دستورية القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 المشار إليه، وإذ ارتأت جدية دفعه، فقد صرحت له برفع الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة.

وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم قبول الدعوى الماثلة في خصوص ما ورد بها من طعن بعدم الدستورية على المواد 99، 107، 108 من القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 المشار إليه بمقولة أن محكمة الموضوع لم تصرح للمدعي بالطعن عليها، وبالتالي فإن نعيه عدم دستوريتها لا يعدو أن يكون اختصاما لها عن طريق الدعوى الأصلية التي لا يجوز قبولها أمام هذه المحكمة وفقا للأوضاع المنصوص عليها في قانونها.

وحيث إن هذا النعي مردود بأن المدعي إذ طعن أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 بأكمله، وكان التصريح الصادر عنها برفع الدعوى الدستورية قد تعلق بهذا القرار بقانون في جملة أحكامه، فإن هذا التصريح يكون منصرفا إلى مواده بأكملها بما في ذلك تلك التي عينها المدعى بذواتها وحددها على وجه الخصوص، الأمر الذي يتعين معه رفض هذا الدفع.

وحيث إن المدعي ينعى على القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 المشار إليه انطواءه على عيبين شكليين هما صدوره في غير حالة الضرورة بالمخالفة لنص المادة 147 من الدستور، وعدم مراعاة الأغلبية اللازمة لإقراره وفقا لما تنص عليه المادة 107 من الدستور.

وحيث إن الأصل في الرقابة التي تباشرها هذه المحكمة على دستورية النصوص التشريعية أنها رقابة شاملة تتناول كافة المطاعن الموجهة إليها أيا كانت طبيعتها، وأنها بالتالي لا تقتصر على العيوب الموضوعية التي تقوم على مخالفة نص تشريعي للمضمون الموضوعي لقاعدة واردة في الدستور، وإنما تمتد هذه الرقابة - وبوصفها رقابة مركزية قصرها الدستور والمشرع كلاهما على هذه المحكمة - إلى المطاعن الشكلية التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي للأوضاع الإجرائية التي تطلبها الدستور سواء في ذلك ما كان منها متصلا باقتراح النصوص التشريعية أو إقرارها أو إصدارها حال انعقاد السلطة التشريعية، أو ما كان منها متعلقا بالشروط التي يفرضها الدستور لمباشرة الاختصاص بإصدارها في غيبة السلطة التشريعية أو بتفويض منها، وذلك لورود النصوص المنظمة لهذه الرقابة في صيغة عامة مطلقة، ولأن قصرها على المطاعن الموضوعية الموجهة إلى النصوص التشريعية، إنما يخرج عيوبها الشكلية عن ولاية هذه المحكمة ويعود بالرقابة عليها إلى رقابة الامتناع عن إعمال النصوص التشريعية المخالفة للدستور، وهي رقابة كانت تفتقر إلى مناهج موحدة في تقرير ضوابطها، إذ كان زمامها بيد المحاكم على اختلافها، وكان لكل منها فهمها الخاص لأحكام الدستور مما أسفر عن تناقض أحكامها في الدعاوى المتماثلة، وأخل بالوحدة العضوية للنصوص الدستورية، وحال دون اتساق مفاهيمها وتجانسها، وهو ما حدا بالدستور وقانون هذه المحكمة إلى إبدالها برقابة البطلان - وبها يفقد النص المحكوم بعدم دستوريته قوة نفاذه - لتقوم عليها محكمة عليا تنحصر فيها الرقابة على دستورية النصوص التشريعية جميعها أيا كانت المطاعن الموجهة إليها كي تتولى دون غيرها صون أحكام الدستور وحمايتها.

وحيث إن الرقابة التي تباشرها هذه المحكمة غايتها أن ترد إلى قواعد الدستور كافة النصوص التشريعية المطعون عليها. وسبيلها إلى ذلك أن تفصل بأحكامها النهائية في الطعون الموجهة إليها شكلية أو موضوعية، وأن يكون استيثاقها من استيفاء هذه النصوص لأوضاعها الشكلية أمرا سابقا بالضرورة على خوضها في عيوبها الموضوعية، ذلك أن الأوضاع الشكلية للنصوص التشريعية هي من مقوماتها كقواعد قانونية لا يشمل كيانها أصلا في غيبة متطلباتها الشكلية، وذلك خلافا للعيوب الموضوعية التي تقوم في مبناها على مخالفة النصوص المطعون عليها لقاعدة في الدستور من حيث مضمونها الموضوعي، وهو ما يفترض لزوما اكتمال أوضاعها الشكلية، وإن شابها عوار موضوعي لخروجها على الأحكام الموضوعية في الدستور.

وحيث إنه إذ كان ذلك، فإن الفصل في التعرض المدعى به بين نص تشريعي وقاعدة موضوعية في الدستور سواء بتقرير قيام المخالفة المدعى بها أو بنفيها، إنما يعد قضاء في موضوعها منطويا لزوما على استيفاء النص المطعون عليه للأوضاع الشكلية التي تطلبها الدستور ومانعا من العودة لبحثها، ذلك أن العيوب الشكلية - وبالنظر إلى طبيعتها - لا يتصور أن يكون بحثها تاليا للخوض في المطاعن الموضوعية، ولكنها تتقدمها، ويتعين على هذه المحكمة بالتالي أن تتحراها بلوغا لغاية الأمر فيها ولو كان نطاق الطعن المعروض عليها محددا في إطار المطاعن الموضوعية دون سواها، ومن ثم تفرض العيوب الشكلية نفسها على المحكمة دوما إذ يستحيل عليها أن تتجاهلها عند مواجهتها لأي مطاعن موضوعية، والأمر على نقيض ذلك حين يكون نطاق الطعن منحصرا في المطاعن الشكلية، إذ يكون قرار المحكمة بشأنها متعلقا بها وحدها، ولا يعتبر حكمها برفض هذه المطاعن مطهرا للنصوص المطعون عليها من مثالبها الموضوعية، أو مانعا كل ذي مصلحة من طرحها على المحكمة وفقا لقانونها.

وحيث إنه أيا كانت المطاعن الموجهة إلى النصوص التشريعية فإن قضاء المحكمة في شأنها - وفي النطاق السالف بيانه - إنما يحوز حجية مطلقة في مواجهة سلطات الدولة جميعها، وبالنسبة إلى الكافة، وهي حجية لا يجوز المساس بها وتعتبر بذاتها مانعة من إعادة عرض النزاع محلها من جديد على هذه المحكمة.

وحيث إنه إذ كان ما تقدم، وكان قد سبق لهذه المحكمة بجلستها المنعقدة بتاريخ 16 مايو سنة 1982 التصدي في الدعوى رقم 10 لسنة 1 قضائية لنص الفقرة الأولى من المادة 83 من قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 منتهية في قضائها - وحجيته مطلقة في مواجهة الكافة وسلطات الدولة جميعها - إلى عدم دستوريتها وذلك فيما تضمنته من حظر الطعن في قرارات نقل وندب رجال القضاء والنيابة العامة أمام الدوائر المختصة بالفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شئونهم وذلك استنادا إلى أن هذا الحظر ينحل إلى حصانة أسبغها القرار بقانون المطعون عليه على قرارات إدارية نهائية بما يحول دون إخضاعها للرقابة القضائية بالمخالفة لنص المادة 68 من الدستور، وكان قضاء هذه المحكمة في تلك الدعوى على النحو المتقدم بيانه هو فصل في عوار موضوعي يقوم على مخالفة نص تشريعي في قانون السلطة القضائية للمضمون الموضوعي لقاعدة دستورية توفر لكل ذي شأن حق النفاذ إلى القضاء وتسقط موانعه على اختلافها، فإن قضاءها في هذه المخالفة والقائمة في مضمونها على طعن موضوعي يكون متضمنا على وجه القطع واللزوم تحققها من استيفاء القرار بقانون الذي اشتمل عليها لأوضاعه الشكلية، إذ لو قام لديها الدليل على تخلفها لسقط هذا القرار بقانون برمته، ولامتنع عليها الخوض في اتفاق بعض مواده أو مخالفتها لأحكام الدستور الموضوعية، الأمر الذي يعتبر معه هذا الوجه من النعي على غير أساس حريا بالالتفات عنه.

وحيث إن مناط المصلحة في الدعوى الدستورية - وهو شرط لقبولها - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازما للفصل في الطلبات المرتبطة بها المطروحة أمام محكمة الموضوع. لما كان ذلك وكانت المصلحة الشخصية والمباشرة للمدعي تنحصر في النصوص التشريعية المتصلة بدعواه الموضوعية والتي ترتب على تطبيقها في شأنه عزله من وظيفته القضائية فإن نطاق الطعن في الدعوى الماثلة يتحدد بالمواد 99، 107، 108 من القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية دون مواده الأخرى التي نعى المدعي عليها ما شاع فيها من تحكم السلطة التنفيذية في كافة شئون القضاة ومساسها باستقلال السلطة القضائية، إذ لا صلة لهذه المواد بطلباته الموضوعية التي لا يؤثر فيها الحكم بعدم دستوريتها، الأمر الذي يتعين معه الحكم بعدم قبول الدعوى بالنسبة إليها.

وحيث إن المدعى ينعى على المادة 99 من القرار بقانون المطعون فيه إهدارها استقلال السلطة القضائية بمقولة أنها تمكن وزير العدل من التدخل في شئونها بالمخالفة للمادتين 165؛ 166 من الدستور.

وحيث إن الفقرة الأولى من المادة 99 المشار إليها تنص على أن تقام الدعوى التأديبية من النائب العام بناء على طلب وزير العدل من تلقاء نفسه أو بناء على اقتراح رئيس المحكمة التي يتبعها القاضي، كما تنص فقرتها الثانية على أن هذا الطلب لا يقدم إلا بناء على تحقيق جنائي أو إداري يتولاه أحد نواب رئيس محكمة النقض أو رئيس محكمة استئناف يندبه وزير العدل بالنسبة إلى المستشارين أو مستشار من إدارة التفتيش القضائي بالنسبة إلى الرؤساء بالمحاكم الابتدائية وقضاتها.

وحيث إن تنظيم العدالة وإدارتها إدارة فعالة مسألة وثيقة الصلة بالحرية وصون الحقوق على اختلافها، وكان الدستور قد كفل للسلطة القضائية استقلالها وجعل هذا الاستقلال عاصما من التدخل في أعمالها أو التأثير في مجرياتها باعتبار أن القرار النهائي في شأن حقوق الأفراد وواجباتهم وحرياتهم هو بيد أعضائها، وكان هذا الاستقلال يقوم في مضمونه على أن تفصل السلطة القضائية فيما يعرض عليها من أقضية في موضوعية كاملة، وعلى ضوء الوقائع المطروحة عليها، ووفقا للقواعد القانونية المعمول بها، ودون ما قيود تفرضها عليها أي جهة أو تدخل من جانبها في شئون العدالة بما يؤثر في متطلباتها، لتكون لقضاتها الكلمة النهائية في كل مسألة من طبيعة قضائية، ولتصدر أحكامها وفقا لقواعد إجرائية تكون منصفة في ذاتها وبما يكفل الحماية الكاملة لحقوق المتقاضين.

وحيث إن دور وزير العدل سواء في نطاق طلبه رفع الدعوى التأديبية أو ندب من يقوم بإجراء التحقيق السابق عليها، لا يجرد الدعوى التأديبية من ضماناتها الأساسية، ولا يجعل السير فيها أو متابعة إجراءاتها أو الفصل فيها لجهة إدارية، بل الأمر في شأنها لازال معقودا لمجلس التأديب الذي أقامه المشرع من عناصر قضائية تتصدر في التنظيم القضائي درجاته العليا، وإليه تؤول مسئولية تقدير التهمة ووزن أدلتها بمقاييس موضوعية، وهو لا يفيد في أي حال بما يسفر عنه التحقيق الأولي جنائيا كان هذا التحقيق أم إداريا، إذ خوله المشرع حق إطراحه وإجراء تحقيق جديد يتحدد على ضوئه مسار الدعوى التأديبية ووجهتها النهائية، كذلك يستقل هذا المجلس بتحديد إطار الدعوى التأديبية أو نطاقها حين يقرر إسقاط بعض عناصر الاتهام التي تضمنتها عريضتها، وهو ليس ملزما بالسير في الدعوى التأديبية ما لم يروجها للاستمرار في إجراءاتها. واستظهار الحقيقة في شأن الاتهام، والفصل فيه مرده إليه، فهو الذي يستدعي الشهود ويرجح ما يطمئن إليه من أقوالهم ويوازنها بدفاع العضو المرفوعة عليه الدعوى وبطلبات النيابة العامة، ولا يحكم في غيبته إلا بعد التحقق من صحة إعلانه، ولا يصدر حكما في الدعوى التأديبية ما لم يكن مشتملا على أسبابه التي بني عليها، بما مؤداه أن الدعوى التأديبية زمامها بيده، وإليه مرجعها بدءا بإجراءاتها الأولى وإلى نهاية مطافها، ولا يجاوز دور وزير العدل في شأنها مجرد طلب رفعها على ضوء الأدلة التي تتوافر لديه، أما رفعها ومباشرتها فموكولين إلى النائب العام بصفته، كذلك فإن من يندبه وزير العدل لإجراء التحقيق يظل دوما من رجال السلطة القضائية، ومآل الأمر فيما أجراه إلى مجلس التأديب الذي أقامه القرار بقانون المطعون عليه على شئون الدعوى التأديبية، ولم يجز لأي سلطة التدخل في مجرياتها أو أعاقتها على أي نحو، أو توجيهها وجهة دون أخرى، أو إقحام أدلة عليها أو مراجعة القضاء الصادر عن هذا المجلس سواء كان بإدانة العضو المرفوعة عليه الدعوى عن التهمة الموجهة إليه أم كان بتبرئته منها، إذ كان ذلك، فإن ما قرره المدعي في منعاه يكون مفتقرا إلى سنده حريا بالرفض.

وحيث إن المدعي ينعى على المادة 107 من القرار بقانون المطعون عليه أنها تقرر سرية الأحكام الصادرة في الدعاوى التأديبية عند النطق بها، ولا تجيز الطعن فيها، وتخل بالمساواة القانونية بين أعضاء السلطة القضائية وغيرهم في مجال ضمانة النفاذ إلى قضاء تتعدد درجاته، الأمر الذي ينطوي على مخالفة للمواد 40، 68، 169 من الدستور.

وحيث إن هذا النعي مردود بأن القرار بقانون المطعون عليه أجاز مساءلة القضاة تأديبيا عن طريق دعوى يتم رفعها بعريضة تشتمل على التهمة والأدلة المؤيدة لها ليفصل فيها مجلس خاص مشكل من سبعة من رجال القضاء هم بطبيعة مراكزهم وأقدمياتهم على القمة من مدارج التنظيم القضائي، وبالتالي أكثر خبرة ودراية بأوضاع السلطة القضائية وشئون القائمين عليها وأقدر على الفصل في منازعاتهم، وكان القرار بقانون المطعون فيه قد أحاط دفاعهم في تلك الدعوى بما يكفل ضماناته الأساسية، ونص في المادة 107 منه على عدم جواز الطعن في الأحكام الصادرة في الدعاوى التأديبية وأن تكون مشتملة على أسبابها التي تتلى عند النطق بها في جلسة سرية، وكان من المقرر - وعلى ما جرى به قضاء المحكمة العليا وقضاء هذه المحكمة - أن الأحكام التي يتعين النطق بها علانية وفقا لنص المادة 169 من الدستور هي تلك التي تصدر من المحاكم بالمعنى الضيق دون سواها من الهيئات القضائية، وأن ما ينص عليه المشرع من عدم جواز الطعن في بعض الأحكام القضائية، لا مخالفة فيه لنصوص الدستور التي لا تحول دون قصر التقاضي على درجة واحدة في المسائل التي فصل الحكم فيها، وكان المشرع قد أفرد أعضاء السلطة القضائية - المتماثلة مراكزهم القانونية - بهذا التنظيم الخاص بالدعوى التأديبية لدواع اقتضتها المصلحة العامة ووفق أسس موضوعية لا تمييز فيها بين بعضهم البعض، وبما لا يخل بشرطي العمومية والتجريد في القاعدة القانونية، فإن هذا النعي في جميع أوجهه لا يكون قائما على أساس.

وحيث إن المدعي ينعى على المادة 108 من القرار بقانون المطعون عليه تحديدها العقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على القضاة باللوم والعزل وذلك بالمخالفة لنص المادة 169 من الدستور التي تنص على أن القضاة غير قابلين للعزل، وينظم القانون مساءلتهم تأديبيا.

وحيث إن هذا النعي مردود بأن عدم قابلية القضاة للعزل حصانة قررها الدستور والمشرع كلاهما حماية للوظيفة القضائية، ونأيا بمن يضطلعون بأعبائها عن أن تضل العدالة طريقها إلى أحكامهم، أو أن تهن عزائمهم في الدفاع عن الحق والحرية والأعراض والأموال إذا جاز لأي جهة أيا كان موقعها أن تفرض ضغوطها عليهم أو أن تتدخل في استقلالية قراراتهم أو أن يكون تسلطها عليهم بالوعد أو الوعيد حائلا دون قيامهم بالأمانة والمسئولية على رسالتهم سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر. ولا شبهة في أن هذه الحصانة - وتلك غايتها - لا يجوز أن تكون موطئا لحماية أعضاء السلطة القضائية - من المسئولية عن عثراتهم التي تخل بشروط توليهم القضاء وقيامهم على رسالته، ولا أن تكون عاصما من محاسبتهم عما يصدر عنهم من أعمال تؤثر في هيبة السلطة القضائية وعلو منزلتها أو تنتقص من ثقة المتقاضين في القائمين على شئونها، وإنما يتعين أن تظل الحصانة مرتبطة بمقاصدها ممثلة في تأمين العمل القضائي من محاولة التأثير فيه ضمانا لسلامته، ذلك أن الدستور فرضها كضمانة لاستقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطتين الأخريين بوجه خاص - تكفل حريتها في العمل وتصون كرامة أعضائها، وهي تلازمهم دوما طالما ظل سلوكهم موافقا لواجباتهم الوظيفية، مستجيبا لمتطلباتها، معتصما بالاستقامة والبعد عما يشينها، وإلا حقت مساءلتهم تأديبيا وتنحيتهم عن الاستمرار في عملهم إذا هم تنكبوا سبيله القويم، وفقدوا بالتالي شروط توليهم أعباء الوظيفة القضائية وتحملهم لتبعاتها. إذ كان ذلك، فإن التعارض المقول به بين الحصانة المانعة من العزل التي نص عليها الدستور وجواز مساءلة أعضاء السلطة القضائية تأديبيا وتوقيع جزاء عن مخالفتهم المسلكية قد يصل إلى العزل - يكون منتفيا، الأمر الذي يضحى معه هذا الوجه من النعي على غير أساس حريا بالرفض.

لهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية