المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

الدعوى رقم 30 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم

 

سلطة المشرع

حيث إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوما لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها؛ وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين، فإن ما تقره من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ذلك أن إهدار هذه الحقوق أو تهميشها عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها. ولا يجوز بالتالي أن يكون تنظيم هذه الحقوق اقتحاما لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفا ومبرراً.

 

التمييز في مجال العمل

حيث إن كل تمييز لا يتصل بالشروط الموضوعية التي ينبغي أن يمارس العمل في نطاقها، يعتبر منهياً عنه دستورياً، سواء انعكس هذا التمييز في شكل آثار اقتصادية، أم كان مرهقا لبيئة العمل ذاتها أو ملوثا لها من خلال صور من التعامل تحيطها، وتتباين أبعادها، إذا كان من شأنها في مجموعها - وعلى امتداد حلقاتها - الإضرار بقيمة العمل، أو الإخلال بطبيعة الشروط التي تقتضيها. ومن ثم لا يكون التمييز في مجال العمل مقبولا، كلما كان حائلا دون قيام العمال بواجباتهم، سواء من خلال صرفهم عن الأداء الأقوم لها، أو بإثنائهم عن متابعتها، أو حملهم على التخلي عنها بتمامها. بما مؤداه أن بيئة العمل لا يجوز إرهاقها بعوامل تنافي طبيعتها، ولو كان أثرها منحصرا في مشاعر العاملين وصحتهم النفسية، ذلك أن التحامل في شروط العمل والأوضاع التي يتصل بها، يعني عدوانية البيئة التي يمارس فيها أو انحرافها.

 

وحدة حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة

حيث إن من المقرر أن حقوق الإنسان وحرياته التي كفلها الدستور لا تتدرج فيما بينها ليعلو بعضها على بعض، بل يتعين النظر إليها بوصفها قيما عليا تنتظم حقوقا لا تنقسم، فلا يجوز تجزئتها، بل يكون ضمانها في مجموع عناصرها ومكوناتها، لازما لتطوير الدول لمجتمعاتها وفق قواعد القانون الدولي العام، التي تشكل في التطور الراهن لهذه الحقوق، كثيرا من ملامحها. ولئن جاز القول بأن لبعض هذه الحقوق - كتلك التي تتعلق بالشخصية القانونية لكل إنسان، وألا تفرض عليه عقوبة يكون تطبيقها رجعيا، أو مُِهينا، أو كاشفا عن قسوتها، ولا أن يكون مسخرا لغيره أو مسترقا، خصائص تكفل ضمانها في كل الظروف، فلا يجوز تجريد أحد من محتواها، أو إرهاقها بقيود تنال منها، وأنها بصفتها هذه تعتبر مفترضا أوليا لقيام غيرها من الحقوق، بل ولممارستها في إطار ملائم، إلا أن حقوق الإنسان جميعها، لا يجوز عزلها عن بعض، ولو كان لبعضها دور أكبر لصلتها الوثقى بوجوده وآدميته. بل يتعين أن تتوافق وتتناغم فيما بينها، لتتكامل بها الشخصية الإنسانية في أكثر توجهاتها عمقا ونبلا. يؤيد ذلك أن إنهاء التمييز على أساس من العنصر أو الجنس أو العرق أو العقيدة، يمكن أن يؤثر بصورة جوهرية في التدابير الاقتصادية والاجتماعية، ويُعِيد بناء القوة السياسية وتوجيهها. كذلك فإن صون حرية التعبير والاجتماع للمواطنين، يعتبر عازلا ضد جنوح السلطة وانحرافها، وضمانا لفرص أفضل لتطوير مجتمعهم، ليكون مدنيا نابضا بالحياة.

 

إمكانية توكيد الحقوق المدنية والسياسية قضاء وإنفاذها جبرا، والإعمال التدريجي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

حيث إن الأصل في الحقوق المدنية والسياسية، هو اتسامها بإمكان توكيدها قضاء وإنفاذها جبراً ذلك أن مجرد امتناع الدولة عن التدخل في نطاقها دون مقتض، يعتبر كافيا لضمانها، وعليها بالتالي ألا تأتى أفعالا تعارضها أو تنقضها. وعلى نقيض ذلك لا يتصور ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلا من خلال تدخل الدولة إيجابياً لتقريرها عن طريق الاعتماد على مواردها الذاتية التي تتيحها قدراتها؛ بما مؤداه، أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية هي التي تناهض الفقر والجوع والمرض، ويستحيل بالنظر إلى طبيعتها صونها لكل الناس في آن واحد، بل يكون تحقيقها في بلد ما مرتبطاً بأوضاعها وقدراتها ونطاق تقدمها، وعمق مسئولياتها قبل مواطنيها، وإمكان النهوض بمتطلباتها، فلا تنفذ هذه الحقوق نفاذاً فوريا، بل تنمو وتتطور وفق تدابير تمتد زمناً، وتتصاعد تكلفتها بالنظر إلى مستوياتها وتبعاً لنطاقها، ليكون تدخل الدولة إيجابيا لإيفائها متتابعا، واقعا في أجزاء من إقليمها إذا أعوزتها قدراتها على بسط مظلتها على المواطنين جميعاً.

 

ارتباط الحقوق بمضمونها وضماناتها

حيث إن الحقوق جميعها - ويندرج تحتها حق العمل – لا تنشأ إلا بتوافر متطلباتها، ذلك أن الشروط التي يفرضها المشرع لقيام حق من الحقوق، تعتبر من عناصره، بها ينهض سويا على قدميه، ولا يتصور وجوده بدونها، ولا أن يكتمل كيانه في غيبتها. ومن ثم لا تنعزل هذه الشروط عن الحق الذي نشأ مرتبطاً بها، مكتملاً وجوداً بتحققها، بما مؤداه امتناع التعديل فيها بعد نشوء الحق مستجمعاً لها، وإلا كان ذلك نقضا للحق بعد تقريره، وهو ما ينحل إلى مصادرته على خلاف أحكام الدستور التي تبسط حمايتها على الحقوق جميعها - الشخصية منها والعينية - باعتبار أن لكل منها قيمة مالية لا يجوز الانتقاص منها.

 

مضمون الحق في العمل وضماناته

حيث إن لكل حق أوضاعاً يقتضيها وآثارا يرتبها، من بينها - في مجال حق العمل - ضمان الشروط التي يكون أداء العمل في نطاقها، منصفاً وإنسانياً ومواتيا. ويتصل بها ألا يكون العمل قسريا، وامتناع التمييز بين العمال في مجال استخدامهم لاعتبار لا يتعلق بقيمة العمل، أو النزول بأجورهم عن حد أدنى يكفيهم لمعاشهم. ويتعين دوماً ضمان راحتهم الأسبوعية، وأن يكون زمن عملهم محدداً، وعجزهم عن العمل مُؤمَّناً، وعطلاتهم الرسمية مأجورة، وينبغي بوجه خاص أن يكفل المشرع مساواتهم في الأجر عن الأعمال عينها، ودونما تمييز. وهذه القاعدة ذاتها، هي التي قررتها المادة 75 من العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وكفلتها كذلك المادة 15 من الميثاق المبرم بين بعض الدول الأفريقية في شأن حقوق شعوبها، بنصها على أن لكل فرد الحق في العمل وفقا لشروط مرضية ومنصفة مع ضمان المساواة في الأجر عن الأعمال المتماثلة.

 

الأجر المتكافئ عن الأعمال ذاتها

قاعدة الأجر المتكافئ للأعمال ذاتها، هي التي تبنتها الاتفاقية رقم 100 التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية، والنافذة أحكامها اعتباراً من 23 مايو سنة 1953، ذلك أنها تنص في مادتيها الثانية والثالثة على أن تتخذ الدول أطرافها، التدابير الملائمة التي تكفل لكل رجل وامرأة أجراً متماثلاً عن الأعمال التي تتكافأ قيمتها سواء من خلال تشريعاتها، أو عن طريق آلية تنشئها أو تقرها في مجال تحديد الأجر، أو على ضوء اتفاق جماعي فيما بين العمال وأربابهم، أو بمزج هذه الوسائل جميعها، على أن يكون مفهوما أن تفاوت الأجور فيما بين العمال، لا يناقض مبدأ الأجر المتكافئ عن الأعمال ذاتها، كلما كان ذلك عائدا إلى التقييم الموضوعي للأعمال التي يؤدونها على ضوء متطلباتها، وما يكون لازماً لإنجازها، وليس راجعاً إلى ذكورتهم أو أنوثتهم.

 

الحق في العمل وفقا للدساتير الوطنية (الهند، إيطاليا، رومانيا، تركيا، ومصر)

حيث إن الدساتير الوطنية تؤكد المعاني السابقة وتبلورها. ومن ذلك ما ينص عليه البند د من المادة 39 من دستور جمهورية الهند، من أن تعمل الدولة بوجه خاص على أن تُؤَمن من خلال توجيهها لسياستها، أجراً متكافئا في شأن الأعمال ذاتها أيا كان القائمون بها؛ وما تنص عليه المادة 36 من الدستور الإيطالي، من أن لكل عامل الحق في أجر يكون متناسبا مع الأعمال التي يزاولها في كمها ونوعها، وكافيا لأن يوفر للعمال وعائلاتهم وجوداً حراً كريما؛ وما ينص عليه البند 4 من المادة 38 من الدستور الروماني، من أن للمرأة أجراً مماثلا للرجل عن الأعمال عينها؛ وما تنص عليه المادة 95 من الدستور التركي من أن تتخذ الدولة التدابير اللازمة التي تكفل بها حصول العمال على أجر يكون منصفاً ومناسبا للأعمال التي ينجزونها.

وحيث إن البين من نص المادة 13 من دستور جمهورية مصر العربية، أن العمل - وفي إطار الخصائص التي يقوم عليها باعتباره حقا وواجبا وشرفا - مكفول من الدولة سواء بتشريعاتها أو بغير ذلك من التدابير وإعلاؤها لقدر العمل وارتقاؤها بقيمته، يحملها على تقدير من يمتازون فيه، ليكون التمايز في أداء العاملين، مدخلاً للمفاضلة بينهم. وهو ما يعني بالضرورة أن الشروط الموضوعية وحدها، هي التي يعتد بها في تقدير العمل وتحديد أجره، والأحق بالحصول عليه، والأوضاع التي ينبغي أن يمارس فيها، والحقوق التي يتصل بها، وأشكال حمايتها ووسائل اقتضائها، ويندرج تحتها الحق في ألا يناقض العمل، العقيدة التي يؤمن العامل بها، وألا يكون مُرْهَقاً بشروط يُحْمَل العامل معها على القبول بأجر أقل أو بظروف أسوأ، فلا يكون العمل منتجا، ولا كافلاً تحقيق الإنسان لذاته، ولا نافيا عن ضمانة الحق في الحياة واحدا من أهم روافدها، بل عائقا للتنمية في أعمق مجالاتها.

وحيث إن ما نص عليه الدستور من اعتبار العمل حقاً، مؤداه ألا يتقرر هذا الحق إيثارا ولا يمنح تفضلاً؛ وألا يكون تنظيم هذا الحق مناقضاً لفحواه؛ وألا يكون نوع العمل طاردا لقوة العمل، بل ملائما جاذبا لها؛ وأن يكون فوق هذا اختيارا حراً؛ والطريق إليه محدداً في إطار شروط موضوعية؛ متوخيا دوما تطوير أنماط الحياة وتشكيلها في اتجاه التقدم؛ معززاً ببرامج رائدة تزيد من خبرة العامل وتنميها، وتعُين على تعاون العمال فيما بينهم، وتكفل خلق مناخ ملائم يكون العمل في إطاره إسهاماً وطنياً وواجبا.

وحيث إن ما نص عليه الدستور في الفقرة الثانية من المادة 13، من أن العمل لا يجوز أن يفرض جبراً على المواطنين إلا بمقتضى قانون، ولأداء خدمة عامة، وبمقابل عادل، مؤداه أن الأصل في العمل أن يكون إراديا قائما على الاختيار الحر، فلا يفرض عنوة على أحد، إلا أن يكون ذلك وفق القانون - وباعتباره تدبيراً استثنائيا متصلاًً بدواعي الخدمة العامة مرتبطاً بمتطلباتها - وبمقابل عادل. وهو ما يعني أن عدالة الأجر لا تنفصل عن الأعمال التي يؤديها العامل، سواء في نوعها أو كمها، فلا عمل بلا أجر، ولا يكون الأجر مقابلاً للعمل إلا بشرطين: أولهما: أن يكون متناسبا مع الأعمال التي أداها العامل، مقدراً بمراعاة أهميتها وصعوبتها وتعقدها وزمن انجازها، وغير ذلك من العناصر الواقعية التي يتحدد على ضوئها نطاقها ووزنها. ثانيهما: أن يكون ضابط التقدير موحداً، فلا تتعدد معايير هذا التقدير بما يباعد بينها وبين الأسس الموضوعية لتحديد الأجر. وهو ما يعني بالضرورة ألا يكون مقدار الأجر محدداً التواء أو انحرافاً، فلا يمتاز بعض العمال عن بعض إلا بالنظر إلى طبيعة الأعمال التي يؤدونها وأهميتها. فإذا كان عملهم واحداً، فإن الأجر المقرر لجميعهم ينبغي أن يكون متماثلاً، بما مؤداه أن قاعدة التماثل في الأجر للأعمال ذاتها، تفرضها وتقتضيها موضوعية الشروط التي يتحدد الأجر في نطاقها.

 

اختصاص المحكمة الدستورية

حيث إن البين من الأوراق، أن المحكمة الاستئنافية بعد تقديرها لجدية الدفع المثار من المدعين، وتصريحها لهم باتخاذ إجراءات رفع الدعوى الدستورية، عادت إلى نقض قرارها هذا بعدولها عن تقديرها السابق لجدية الدفع، ثم مضيها في نظر دعواهم وانتهائها إلى رفضها، وهو ما يعتبر عدواناً من جانبها على الولاية التي أثبتها الدستور للمحكمة الدستورية العليا. ذلك أن الأصل المقرر قانونا - وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - أن اتصال الخصومة الدستورية بها من خلال رفعها إليها وفقاً للأوضاع المنصوص عليها في قانونها، يعنى دخولها في حوزتها لتهيمن عليها وحدها، فلا يجوز بعد انعقادها، أن تتخذ محكمة الموضوع إجراء أو تصدر حكما يحول دون الفصل في المسائل الدستورية التي تثيرها. ذلك أن الدفع بعدم الدستورية الذي طرح أمام محكمة الموضوع، كان محركاً للخصومة الدستورية، وعليها بعد تقديرها لجديته، وتعلق المسائل الدستورية التي أثارها بالمحكمة الدستورية العليا، أن تتربص قضاءها فيها باعتباره فاصلاً في موضوعها، كاشفاً عن النصوص القانونية التي ينبغي تطبيقها في النزاع الموضوعي، بما مؤداه - أنه فيما عدا الأحوال التي تنتفي فيها المصلحة في الخصومة الدستورية بقضاء من المحكمة الدستورية العليا، أو التي ينزل فيها خصم عن الحق في دعواه الموضوعية من خلال تركها وفقاً للقواعد المنصوص عليها في قانون المرافعات، أو التي يتخلى فيها عن دفع بعدم الدستورية سبق لها تقدير جديته، أو التي يكون عدول محكمة الموضوع فيها عن تقديرها لجدية دفع بعدم الدستورية، مبناه إعمالها للآثار المترتبة على قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن النصوص ذاتها التي قام عليها هذا الدفع سواء بتقرير هذه المحكمة لصحتها أو بطلانها - فإن على محكمة الموضوع أن تلتزم قضاءها بتقدير جدية الدفع فلا تنحيه، وإلا كان ذلك نكولاً من جانبها عن التقيد بنص المادة 175 من الدستور التي تخول المحكمة الدستورية العليا دون غيرها، الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح؛ وتسليطاً لقضاء أدنى على قضاء أعلى بما يناقض الأسس الجوهرية التي يقوم التقاضي عليها؛ وتعطيلاً للضمانة المنصوص عليها في المادة 68 من الدستور وما يتصل بها من حق اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسائل الدستورية التي اختصها الدستور بها، بوصفها قاضيها الطبيعي؛ ولأن القواعد التي ينتظمها الدستور، هي التي يتعين ترجيحها في النزاع الموضوعي، إذا عارضتها قاعدة قانونية أدنى نزولاً على مبدأ خضوع الدولة للقانون على ما تقضى به المادة 65 من الدستور.

 

 

الدعوى رقم 30 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

نص الحكم

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 6 ابريل سنة 1996م الموافق 18 ذو القعدة 1416هـ.

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين: محمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض.

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ حمدي أنور صابر

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 30 لسنة 16 قضائية "دستورية".

المقامة من

1- السيد/ ...

2- السيد/ ...

3- السيد/ ...

4- السيد/ ...

ضد

1- السيد/ رئيس الجمهورية

2- السيد/ رئيس مجلس الشعب

3- السيد/ رئيس الوزراء

4- السيد المستشار/ وزير العدل

الإجراءات

بتاريخ 31 أغسطس سنة 1994 أودع المدعون صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبين الحكم بعدم دستورية الفقرة الخامسة من المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991.

قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - حسبما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعين، كانوا أعضاء منتخبين بمجلس إدارة شركة الإسكندرية لتوزيع الكهرباء خلال الدورة من 22/11/1991 حتى 12/10/1995، وتقرر لكل منهم مكافأة سنوية تقل عن تلك التي يحصل عليها الأعضاء المعينون. وقام التمييز بين هاتين الفئتين من النصوص التشريعية ذاتها، ذلك أن قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، وإن نص في المادة 21 منه على أن يحدد النظام الأساسي للشركة المكافأة السنوية التي يستحقها الأعضاء المعينون بمجلس إدارة الشركة التي يملك رأس مالها بأكمله شركة قابضة بمفردها، أو بالاشتراك مع آخرين، فإن المكافأة السنوية التي يستحقها أعضاء مجلس إدارتها المنتخبون لا تجاوز بحال أجرهم السنوي الأساسي، مما حملهم - وباعتبارهم أعضاء منتخبين - على أن يقيموا الدعوى رقم 25 لسنة 1994 عمال جزئي إسكندرية، التي قُِضي برفضها، فاستأنفوا حكمها هذا أمام محكمة الإسكندرية الابتدائية بالدعوى رقم 77 لسنة 1994 عمال مستأنف إسكندرية، التي طلبوا فيها إلغاء الحكم المستأنف والحكم لهم بطلباتهم. وأثناء نظر دعواهم هذه، قررت تلك المحكمة - وبجلستها المعقودة في 2/7/1994 - تأجيل نظر استئنافهم لجلسة 3/9/1994 لاتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية - بعد أن دفع محامى المدعين بعدم دستورية الفقرة الخامسة من المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام. وقد أقام المدعون - وتنفيذاً لقرارها - الخصومة الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا، إلا أن المحكمة الاستئنافية مضت في نظر الدعوى التي سبق أن قررت تأجيلها لاتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية. ثم أصدرت حكمها فيها بجلستها المعقودة في 30/1/1995 منتهية إلى عدم جدية الدفع بعدم الدستورية السابق إبداؤه أمامها، ثم إلى قبول الاستئناف شكلا وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف. وحيث إن المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، تنص على ما يأتي: [مع مراعاة أحكام المادة 4 من هذا القانون، يتولى إدارة الشركة التي يملك رأس مالها بأكمله شركة قابضة بمفردها أو بالاشتراك مع شركات قابضة أخرى أو أشخاص عامة أو بنوك القطاع العام، مجلس إدارة يعين لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد... ويتكون مجلس الإدارة من عدد فردي من الأعضاء لا يقل عن خمسة ولا يزيد على التسعة، بما فيهم رئيس المجلس علي النحو التالي: (أ) رئيس غير متفرغ من ذوي الخبرة، تعينه الجمعية العامة للشركة بناء على ترشيح مجلس إدارة الشركة القابضة. (ب) أعضاء غير متفرغين يعينهم مجلس إدارة الشركة القابضة من ذوي الخبرة يمثلون الجهات المساهمة في الشركة. (ج) عدد من الأعضاء مماثل لعدد الأعضاء من ذوي الخبرة يتم انتخابهم من العاملين بالشركة طبقا لأحكام القانون المنظم لذلك. (د) رئيس اللجنة النقابية... وتحدد الجمعية العامة ما يتقاضاه كل من رئيس وأعضاء المجلس المشار إليهم في البندين أ، ب من الفقرة السابقة من مكافآت العضوية، كما يحدد النظام الأساسي للشركة المكافأة السنوية التي يستحقونها بمراعاة نص المادة 34 من هذا القانون. وتحدد الجمعية العامة بدل حضور الجلسات الذي يتقاضاه أعضاء المجلس، وما يستحقه أعضاؤه المنتخبون من مكافأة سنوية بما لا يجاوز الأجر السنوي الأساسي]. وتنص المادة 34 من هذا القانون، على أن يبين النظام الأساسي للشركة كيفية تحديد توزيع مكافأة أعضاء مجلس الإدارة. ولا يجوز تقرير مكافأة مجلس الإدارة بنسبة معينة من الأرباح بأكثر من 5% من الربح القابل للتوزيع، بعد تخصيص ربح لا يقل عن 5% من رأس المال للمساهمين والعاملين كحصة أولى.

وحيث إن المدعين ينعون على الفقرة 5 من المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، تمييزها في مجال المكافأة السنوية التي يستحقها أعضاء مجلس إدارة الشركة التابعة لشركة قابضة، بين فئتين من أعضاء هذا المجلس، إذ بينما يحصل الأعضاء المعينون فيه على مكافأة سنوية يحددها النظام الأساسي للشركة دون حد أقصى، فإن المكافأة السنوية التي يستحقها أعضاء مجلس الإدارة المنتخبون عن العمال، لا يجوز أن يزيد حدها الأقصى على الأجر السنوي الأساسي لكل منهم وبشرط ألا تزيد المكافأة السنوية لهؤلاء وهؤلاء - وعملا بالمادة 34 من هذا القانون - عن 5% من الربح القابل للتوزيع بعد تخصيص ربح لا يقل عن 5% من رأس المال للمساهمين والعاملين كحصة أولى. وإذ كان هذا التمييز يفتقر إلى الأسس الموضوعية التي يمكن أن يُحْمَل عليها، فإنه يكون منهيا عنه بنص المادة 40 من الدستور.

وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوما لها لا يجوز اقتحامها أو تخطيها؛ وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين، فإن ما تقره من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ذلك أن إهدار هذه الحقوق أو تهميشها عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها. ولا يجوز بالتالي أن يكون تنظيم هذه الحقوق اقتحاما لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفا ومبرراً.

وحيث إن الأصل المقرر قانونا أن لمجلس إدارة الشركة - وفيما خلا المسائل التي تدخل في اختصاص جمعيتها العامة - السلطة الكاملة التي يهيمن بها على شئونها باعتباره جهة الاختصاص بتصريفها، وكذلك تقرير سياستها العامة، والعمل على تحقيقها بكل الوسائل التي تلتئم مع أغراضها، وتقديراً بأن أعضاء هذا المجلس يتضامنون معا في دعم نشاطها والنهوض بها.

وحيث إن كل تمييز لا يتصل بالشروط الموضوعية التي ينبغي أن يمارس العمل في نطاقها، يعتبر منهياً عنه دستورياً، سواء انعكس هذا التمييز في شكل آثار اقتصادية، أم كان مرهقا لبيئة العمل ذاتها أو ملوثا لها من خلال صور من التعامل تحيطها، وتتباين أبعادها، إذا كان من شأنها في مجموعها - وعلى امتداد حلقاتها - الإضرار بقيمة العمل، أو الإخلال بطبيعة الشروط التي تقتضيها. ومن ثم لا يكون التمييز في مجال العمل مقبولا، كلما كان حائلا دون قيام العمال بواجباتهم، سواء من خلال صرفهم عن الأداء الأقوم لها، أو بإثنائهم عن متابعتها، أو حملهم على التخلي عنها بتمامها. بما مؤداه أن بيئة العمل لا يجوز إرهاقها بعوامل تنافي طبيعتها، ولو كان أثرها منحصرا في مشاعر العاملين وصحتهم النفسية، ذلك أن التحامل في شروط العمل والأوضاع التي يتصل بها، يعني عدوانية البيئة التي يمارس فيها أو انحرافها objectively Hostile or abusive to Work environment. وحيث إن من المقرر أن حقوق الإنسان وحرياته التي كفلها الدستور لا تتدرج فيما بينها ليعلو بعضها على بعض، بل يتعين النظر إليها بوصفها قيما عليا تنتظم حقوقا لا تنقسم، فلا يجوز تجزئتها، بل يكون ضمانها في مجموع عناصرها ومكوناتها، لازما لتطوير الدول لمجتمعاتها وفق قواعد القانون الدولي العام، التي تشكل في التطور الراهن لهذه الحقوق، كثيرا من ملامحها. ولئن جاز القول بأن لبعض هذه الحقوق - كتلك التي تتعلق بالشخصية القانونية لكل إنسان، وألا تفرض عليه عقوبة يكون تطبيقها رجعيا، أو مُِهينا، أو كاشفا عن قسوتها، ولا أن يكون مسخرا لغيره أو مسترقا، خصائص تكفل ضمانها في كل الظروف، فلا يجوز تجريد أحد من محتواها، أو إرهاقها بقيود تنال منها، وأنها بصفتها هذه تعتبر مفترضا أوليا لقيام غيرها من الحقوق، بل ولممارستها في إطار ملائم، إلا أن حقوق الإنسان جميعها، لا يجوز عزلها عن بعض، ولو كان لبعضها دور أكبر لصلتها الوثقى بوجوده وآدميته. بل يتعين أن تتوافق وتتناغم فيما بينها، لتتكامل بها الشخصية الإنسانية في أكثر توجهاتها عمقا ونبلا. يؤيد ذلك أن إنهاء التمييز على أساس من العنصر أو الجنس أو العرق أو العقيدة، يمكن أن يؤثر بصورة جوهرية في التدابير الاقتصادية والاجتماعية، ويُعِيد بناء القوة السياسية وتوجيهها. كذلك فإن صون حرية التعبير والاجتماع للمواطنين، يعتبر عازلا ضد جنوح السلطة وانحرافها، وضمانا لفرص أفضل لتطوير مجتمعهم، ليكون مدنيا نابضا بالحياة.

 وحيث إن الأصل في الحقوق المدنية والسياسية، هو اتسامها بإمكان توكيدها قضاء Justiciable وإنفاذها جبراً Enforceable ذلك أن مجرد امتناع الدولة عن التدخل في نطاقها دون مقتض، يعتبر كافيا لضمانها، وعليها بالتالي ألا تأتى أفعالا تعارضها أو تنقضها. وعلى نقيض ذلك لا يتصور ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلا من خلال تدخل الدولة إيجابياً لتقريرها عن طريق الاعتماد على مواردها الذاتية التي تتيحها قدراتها؛ بما مؤداه، أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية هي التي تناهض الفقر والجوع والمرض، ويستحيل بالنظر إلى طبيعتها صونها لكل الناس في آن واحد، بل يكون تحقيقها في بلد ما مرتبطاً بأوضاعها وقدراتها ونطاق تقدمها، وعمق مسئولياتها قبل مواطنيها، وإمكان النهوض بمتطلباتها، فلا تنفذ هذه الحقوق نفاذاً فوريا، بل تنمو وتتطور وفق تدابير تمتد زمناً، وتتصاعد تكلفتها بالنظر إلى مستوياتها وتبعاً لنطاقها، ليكون تدخل الدولة إيجابيا لإيفائها متتابعا، واقعا في أجزاء من إقليمها إذا أعوزتها قدراتها على بسط مظلتها على المواطنين جميعاً. إلا أن دستور جمهورية مصر العربية أعلى من قدر العمل - وهو من الحقوق التي كفلها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية - إذ اعتبره حقاً وواجباً وشرفاً.

وحيث إن الحقوق جميعها - ويندرج تحتها حق العمل – لا تنشأ إلا بتوافر متطلباتها، ذلك أن الشروط التي يفرضها المشرع لقيام حق من الحقوق، تعتبر من عناصره، بها ينهض سويا على قدميه، ولا يتصور وجوده بدونها، ولا أن يكتمل كيانه في غيبتها. ومن ثم لا تنعزل هذه الشروط عن الحق الذي نشأ مرتبطاً بها، مكتملاً وجوداً بتحققها، بما مؤداه امتناع التعديل فيها بعد نشوء الحق مستجمعاً لها، وإلا كان ذلك نقضا للحق بعد تقريره، وهو ما ينحل إلى مصادرته على خلاف أحكام الدستور التي تبسط حمايتها على الحقوق جميعها - الشخصية منها والعينية - باعتبار أن لكل منها قيمة مالية لا يجوز الانتقاص منها.

وحيث إن لكل حق أوضاعاً يقتضيها وآثارا يرتبها، من بينها - في مجال حق العمل - ضمان الشروط التي يكون أداء العمل في نطاقها، منصفاً وإنسانياً ومواتيا Fair, Humane and Favoroble Conditions for Work. ويتصل بها ألا يكون العمل قسريا، وامتناع التمييز بين العمال في مجال استخدامهم لاعتبار لا يتعلق بقيمة العمل، أو النزول بأجورهم عن حد أدنى يكفيهم لمعاشهم. ويتعين دوماً ضمان راحتهم الأسبوعية، وأن يكون زمن عملهم محدداً، وعجزهم عن العمل مُؤمَّناً، وعطلاتهم الرسمية مأجورة، وينبغي بوجه خاص أن يكفل المشرع مساواتهم في الأجر عن الأعمال عينها، ودونما تمييز Equal Remuneration for Work of Equal Value Without Discrimination. وهذه القاعدة ذاتها، هي التي قررتها المادة 75 من العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وكفلتها كذلك المادة 15 من الميثاق المبرم بين بعض الدول الأفريقية في شأن حقوق شعوبها، بنصها على أن لكل فرد الحق في العمل وفقا لشروط مرضية ومنصفة مع ضمان المساواة في الأجر عن الأعمال المتماثلة.

وقاعدة الأجر المتكافئ للأعمال ذاتها، هي التي تبنتها الاتفاقية رقم 100 التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية، والنافذة أحكامها اعتباراً من 23 مايو سنة 1953، ذلك أنها تنص في مادتيها الثانية والثالثة على أن تتخذ الدول أطرافها، التدابير الملائمة التي تكفل لكل رجل وامرأة أجراً متماثلاً عن الأعمال التي تتكافأ قيمتها سواء من خلال تشريعاتها، أو عن طريق آلية تنشئها أو تقرها في مجال تحديد الأجر، أو على ضوء اتفاق جماعي فيما بين العمال وأربابهم، أو بمزج هذه الوسائل جميعها، على أن يكون مفهوما أن تفاوت الأجور فيما بين العمال، لا يناقض مبدأ الأجر المتكافئ عن الأعمال ذاتها، كلما كان ذلك عائدا إلى التقييم الموضوعي للأعمال التي يؤدونها على ضوء متطلباتها، وما يكون لازماً لإنجازها، وليس راجعاً إلى ذكورتهم أو أنوثتهم.

وحيث إن الدساتير الوطنية تؤكد المعاني السابقة وتبلورها. ومن ذلك ما ينص عليه البند د من المادة 39 من دستور جمهورية الهند، من أن تعمل الدولة بوجه خاص على أن تُؤَمن من خلال توجيهها لسياستها، أجراً متكافئا في شأن الأعمال ذاتها أيا كان القائمون بها؛ وما تنص عليه المادة 36 من الدستور الإيطالي، من أن لكل عامل الحق في أجر يكون متناسبا مع الأعمال التي يزاولها في كمها ونوعها، وكافيا لأن يوفر للعمال وعائلاتهم وجوداً حراً كريما؛ وما ينص عليه البند 4 من المادة 38 من الدستور الروماني، من أن للمرأة أجراً مماثلا للرجل عن الأعمال عينها؛ وما تنص عليه المادة 95 من الدستور التركي من أن تتخذ الدولة التدابير اللازمة التي تكفل بها حصول العمال على أجر يكون منصفاً ومناسبا للأعمال التي ينجزونها.

وحيث إن البين من نص المادة 13 من دستور جمهورية مصر العربية، أن العمل - وفي إطار الخصائص التي يقوم عليها باعتباره حقا وواجبا وشرفا - مكفول من الدولة سواء بتشريعاتها أو بغير ذلك من التدابير وإعلاؤها لقدر العمل وارتقاؤها بقيمته، يحملها على تقدير من يمتازون فيه، ليكون التمايز في أداء العاملين، مدخلاً للمفاضلة بينهم. وهو ما يعني بالضرورة أن الشروط الموضوعية وحدها، هي التي يعتد بها في تقدير العمل وتحديد أجره، والأحق بالحصول عليه، والأوضاع التي ينبغي أن يمارس فيها، والحقوق التي يتصل بها، وأشكال حمايتها ووسائل اقتضائها، ويندرج تحتها الحق في ألا يناقض العمل، العقيدة التي يؤمن العامل بها، وألا يكون مُرْهَقاً بشروط يُحْمَل العامل معها على القبول بأجر أقل أو بظروف أسوأ، فلا يكون العمل منتجا، ولا كافلاً تحقيق الإنسان لذاته، ولا نافيا عن ضمانة الحق في الحياة واحدا من أهم روافدها، بل عائقا للتنمية في أعمق مجالاتها.

وحيث إن ما نص عليه الدستور من اعتبار العمل حقاً، مؤداه ألا يتقرر هذا الحق إيثارا ولا يمنح تفضلاً؛ وألا يكون تنظيم هذا الحق مناقضاً لفحواه؛ وألا يكون نوع العمل طاردا لقوة العمل، بل ملائما جاذبا لها؛ وأن يكون فوق هذا اختيارا حراً؛ والطريق إليه محدداً في إطار شروط موضوعية؛ متوخيا دوما تطوير أنماط الحياة وتشكيلها في اتجاه التقدم؛ معززاً ببرامج رائدة تزيد من خبرة العامل وتنميها، وتعُين على تعاون العمال فيما بينهم، وتكفل خلق مناخ ملائم يكون العمل في إطاره إسهاماً وطنياً وواجبا.

وحيث إن ما نص عليه الدستور في الفقرة الثانية من المادة 13، من أن العمل لا يجوز أن يفرض جبراً على المواطنين إلا بمقتضى قانون، ولأداء خدمة عامة، وبمقابل عادل، مؤداه أن الأصل في العمل أن يكون إراديا قائما على الاختيار الحر، فلا يفرض عنوة على أحد، إلا أن يكون ذلك وفق القانون - وباعتباره تدبيراً استثنائيا متصلاًً بدواعي الخدمة العامة مرتبطاً بمتطلباتها - وبمقابل عادل. وهو ما يعني أن عدالة الأجر لا تنفصل عن الأعمال التي يؤديها العامل، سواء في نوعها أو كمها، فلا عمل بلا أجر، ولا يكون الأجر مقابلاً للعمل إلا بشرطين: أولهما: أن يكون متناسبا مع الأعمال التي أداها العامل، مقدراً بمراعاة أهميتها وصعوبتها وتعقدها وزمن انجازها، وغير ذلك من العناصر الواقعية التي يتحدد على ضوئها نطاقها ووزنها. ثانيهما: أن يكون ضابط التقدير موحداً، فلا تتعدد معايير هذا التقدير بما يباعد بينها وبين الأسس الموضوعية لتحديد الأجر. وهو ما يعني بالضرورة ألا يكون مقدار الأجر محدداً التواء أو انحرافاً، فلا يمتاز بعض العمال عن بعض إلا بالنظر إلى طبيعة الأعمال التي يؤدونها وأهميتها. فإذا كان عملهم واحداً، فإن الأجر المقرر لجميعهم ينبغي أن يكون متماثلاً، بما مؤداه أن قاعدة التماثل في الأجر للأعمال ذاتها، تفرضها وتقتضيها موضوعية الشروط التي يتحدد الأجر في نطاقها.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان الأعضاء المنتخبون والمعينون وفقاً لنص المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991 يجمعهم مجلس إدارة واحد، يباشر مهاما محددة يتولونها جميعاً، ويتحملون معاً - وبقدر متساو فيما بينهم - المسئولية الكاملة عنها، وبافتراض أن تحقيق شركتهم لأهدافها، نتاج لجهدهم وتكاتفهم، وثمرة تعاونهم على دعم نشاطها؛ وكان التمييز فيما بينهم في مجال المكافأة السنوية التي يستحقونها، يناقض التمكين للقيم الأصيلة الخلقية والوطنية التي يلتزم مجتمعهم بالتحلي بها والعمل على إرسائها، على ما تنص عليه المادة 12 من الدستور؛ ويخل كذلك بما قرره الدستور في المواد 7، 23، 62، من أن الأجر وفرص العمل وربطهما معاً بالإنتاجية، ضمانة جوهرية لزيادة الدخل القومي؛ وأن التمييز في مجال الأجر دون مقتض، إنما يقوض بنيان الجماعة وينال من التضامن بين أفرادها؛ ولا يكفل إسهاما جاداً ونافعا في الحياة العامة؛ وهو كذلك إهدار للشخصية المتنامية لكل إنسان، وللقيم العليا التي ينبغي أن يؤمن بها، فإن التمييز المقرر بالنص المطعون فيه يكون هادما لمبدأ المساواة أمام القانون، ذلك أن صور التمييز التي تناهض هذا المبدأ وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق أو الحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها، أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين للانتفاع بها. وحيث إنه متى كان ذلك، فإن النص المطعون فيه يكون مخالفاً لأحكام المواد 7، 12، 13، 23، 40، 62 من الدستور.

وحيث إنه لا ينال مما تقدم، ما قررته هيئة قضايا الدولة، من أن المنتخبين بمجلس الإدارة يختلفون في مركزهم القانوني عن المعينين من أعضائه، لتمتعهم دون الآخرين بمزايا تقتصر عليهم سواء في مجال الأرباح التي يتم توزيعها، أو من خلال مزايا عينية تقدمها إليهم شركتهم في مجال الإسكان وغيره، مع بقائهم في الشركة عمالا بها بعد انتهاء عضويتهم بمجلس إداراتها على خلاف المعينين، ذلك أن المكافأة السنوية التي يستحقها أعضاء مجلس الإدارة المنتخبون، واقعتها المنشئة هي عملهم فيه، ولا شأن لها بالمزايا التي يحصلون عليها من شركتهم بوصفهم من العاملين بها، بل قوامها ذلك الجهد المبذول في مجلس إدارتها من أجل إدارة شئونها وتصريفها، متكاتفين في ذلك مع الأعضاء المعينين في هذا المجلس.

وحيث إن البين من الأوراق، أن المحكمة الاستئنافية بعد تقديرها لجدية الدفع المثار من المدعين، وتصريحها لهم باتخاذ إجراءات رفع الدعوى الدستورية، عادت إلى نقض قرارها هذا بعدولها عن تقديرها السابق لجدية الدفع، ثم مضيها في نظر دعواهم وانتهائها إلى رفضها، وهو ما يعتبر عدواناً من جانبها على الولاية التي أثبتها الدستور للمحكمة الدستورية العليا. ذلك أن الأصل المقرر قانونا - وعلى ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - أن اتصال الخصومة الدستورية بها من خلال رفعها إليها وفقاً للأوضاع المنصوص عليها في قانونها، يعنى دخولها في حوزتها لتهيمن عليها وحدها، فلا يجوز بعد انعقادها، أن تتخذ محكمة الموضوع إجراء أو تصدر حكما يحول دون الفصل في المسائل الدستورية التي تثيرها. ذلك أن الدفع بعدم الدستورية الذي طرح أمام محكمة الموضوع، كان محركاً للخصومة الدستورية، وعليها بعد تقديرها لجديته، وتعلق المسائل الدستورية التي أثارها بالمحكمة الدستورية العليا، أن تتربص قضاءها فيها باعتباره فاصلاً في موضوعها، كاشفاً عن النصوص القانونية التي ينبغي تطبيقها في النزاع الموضوعي، بما مؤداه - أنه فيما عدا الأحوال التي تنتفي فيها المصلحة في الخصومة الدستورية بقضاء من المحكمة الدستورية العليا، أو التي ينزل فيها خصم عن الحق في دعواه الموضوعية من خلال تركها وفقاً للقواعد المنصوص عليها في قانون المرافعات، أو التي يتخلى فيها عن دفع بعدم الدستورية سبق لها تقدير جديته، أو التي يكون عدول محكمة الموضوع فيها عن تقديرها لجدية دفع بعدم الدستورية، مبناه إعمالها للآثار المترتبة على قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن النصوص ذاتها التي قام عليها هذا الدفع سواء بتقرير هذه المحكمة لصحتها أو بطلانها - فإن على محكمة الموضوع أن تلتزم قضاءها بتقدير جدية الدفع فلا تنحيه، وإلا كان ذلك نكولاً من جانبها عن التقيد بنص المادة 175 من الدستور التي تخول المحكمة الدستورية العليا دون غيرها، الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح؛ وتسليطاً لقضاء أدنى على قضاء أعلى بما يناقض الأسس الجوهرية التي يقوم التقاضي عليها؛ وتعطيلاً للضمانة المنصوص عليها في المادة 68 من الدستور وما يتصل بها من حق اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسائل الدستورية التي اختصها الدستور بها، بوصفها قاضيها الطبيعي؛ ولأن القواعد التي ينتظمها الدستور، هي التي يتعين ترجيحها في النزاع الموضوعي، إذا عارضتها قاعدة قانونية أدنى نزولاً على مبدأ خضوع الدولة للقانون على ما تقضى به المادة 65 من الدستور.

متى كان ذلك، وكان إنفاذ نصوص الدستور السابق بيانها، يقتضي ألا تعاق المحكمة الدستورية العليا بقرار من محكمة الموضوع - عن مباشرة ولايتها التي لا يجوز لها أن تتخلى عنها، وإلا كان ذلك منها تحريفاً لاختصاصها، وإهداراً لموقعها من البنيان القانوني للنظام القضائي في مصر، وتنصلاً من مسئولياتها التي أولاها الدستور أمانتها؛ وكان الحكم الصادر من محكمة الموضوع في النزاع الماثل، وإن صار نهائياً، إلا أن تعلق الخصومة الدستورية بالمحكمة الدستورية العليا قبل هذا الحكم ووفقاً لقانونها، والتزامها دستورياً بأن تقول كلمتها فيها، يقتضيها إسباغ الولاية من جديد على محكمة الموضوع لتفصل في النزاع الذي كان مطروحاً عليها على ضوء قضاء المحكمة الدستورية العليا الراهن، ودون تقيد بالحكم الصادر عنها في النزاع الموضوعي.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الخامسة من المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991 من تحديد حد أقصى للمكافأة السنوية التي يتقاضاها أعضاء مجلس الإدارة المنتخبون، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة

 

العودة للصفحة الرئيسية