المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

الدعوى رقم 28 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم

 

مهام السلطتين التشريعية والقضائية

حيث إن الدستور عهد إلى كل من السلطتين التشريعية والقضائية بمهام قصرها عليهما، فلا تتداخل الولايتان أو تتماسا، ذلك إن الدستور ناط بالسلطة التشريعية سن القوانين وفقا لأحكامه، فنص في المادة 86 على أن "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع، ويقر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على الوجه المبين في الدستور". كذلك أسند الدستور إلى السلطة القضائية ولاية الفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور. فنص في المادة 165 على أن "السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون".

 

لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره

وحيث إن الدستور - في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة، ومتابعة خطاها، والتقيد بمناهجها التقدمية - نص في المادة 66، على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء - في زواجره ونواهيه - هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها، وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالي وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثا بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.

 

الحق في محاكمة منصفة

وحيث إن الدستور كفل في مادته السابعة والستين، الحق في المحاكمة المنصفة. بما تنص عليه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما: أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره في محاكمة علنية، ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة ومحايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية، أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما: في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة. وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي، وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضي الدستور في المادة 41 بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة، ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما في الدعوى الجنائية، وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها.

 

افتراض براءة المتهم وضوابط المحاكمة المنصفة

افتراض براءة المتهم، يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد غدا من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك، أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.

 وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التي يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد - وإن كانت إجرائية في الأصل - إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية - وعلى امتداد مراحلها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67، مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما سلف البيان، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان. وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد، سواء كان مشتبها فيه أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي، أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام، ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته، لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها، وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها، ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الاقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها، قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا. وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها، إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى، وأقامها بديلا عنها. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وهو كذلك من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور. ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، ليوفر من خلالها لكل فرد، الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية يحدثها.

 

افتراض البراءة - الحق في الدفاع - القصد الجنائي

وحيث إن من المقرر كذلك أن افتراض البراءة يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية إلزامية، تعتبر من زاوية دستورية وثيقة الصلة بالحق في الدفاع، من بينها حق المتهم في مواجهة الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، وكذلك الحق في هدمها بأدلة النفي التي يقدمها. وحيث إن الأصل في الجرائم، أنها تعكس تكوينا مركبا باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها وعقل واع خالطها ليهيمن عليها محددا خطاها، متوجها إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، ليكون القصد الجنائي ركنا معنويا في الجريمة مكملا لركنها المادي ومتلائما مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية، هي التي تتطلبها الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنا في الجريمة، وأصلا ثابتا كامنا في طبيعتها، وليس أمرا فجا أو دخيلا مقحما عليها أو غريبا عن خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر، ولكل وجهة هو موليها، لتنحل الجريمة - في معناها الحق - إلى علاقة ما بين العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التي تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التي يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلا عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها. وغدا أمرا ثابتا - وكأصل عام - ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديا قائما على الاختيار الحر. ومن ثم مقصودا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفا على ماهيتها، لازال أمرا عسرا، إلا أن معناها - وبوصفها ركنا معنويا في الجريمة - يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية أو الجانحة أو النوازع الشريرة المدبرة  أو تلك التي يكون الخداع قوامها أو التي تتمحض عن علم بالتأثيم مقترنا بقصد اقتحام حدوده لتدل جميعها على إرادة إتيان فعل بغياً. وحيث إن هذا الأصل - وإن ظل محورا للتجريم - إلا أن المشرع عمد أحيانا - من خلال بعض اللوائح - إلى تقرير جرائم عن أفعال لا يتصل بها قصد جنائي باعتبار أن الأثم ليس كامنا فيها، ولا تدل بذاتها على ميل إلى الشر والعدوان، ولا يختل بها قدر مرتكبها أو اعتباره، وإنما ضبطها المشرع تحديدا لمجراها، وحدا من مخاطرها، وأخرجها بذلك عن مشروعيتها  وهي الأصل - وجعل عقوبتها متوازنة مع طبيعتها، فلا يكون أمرها غلوا من خلال تغليظها، بل هينا في الأعم. وقد بدا هذا الاتجاه متصاعدا إثر الثورة الصناعية التي تزايد معها عدد العمال المعرضين لمخاطر أدواتها وآلاتها ومصادر الطاقة التي تحركها. واقترن ذلك بتعدد وسائل النقل وتباين قوتها، وبتكدس المدن وازدحام أحيائها، وبغلبة نواحي الإخلال بالصحة العامة، وبوجه خاص من خلال الاتصال بالمواد الغذائية سواء عند إنتاجها أو توزيعها وتداولها أو بمراعاة نوعيتها. وكان لازما بالتالي - ولمواجهة تلك المخاطر - أن يفرض المشرع على المسئولين عن إدارة الصناعة أو التجارة وغيرهم، قيودا كثيرة غايتها أن ينتهج المخاطبون بها سلوكا قويما موحدا، ببذل العناية التي يتوقعها المشرع من أوساطهم، ليكون النكول عنها - وبغض النظر عن نواياهم - دالا على تراخي يقظتهم، ومستوجبا عقابهم. غير أن تقرير هذا النوع من الجرائم في ذلك المجال، ظل مرتبطا بطبيعتها ونوعيتها، ومنحصرا في الحدود الضيقة التي تقوم فيها علاقة مسئولية بين من يرتكبها، وخطر عام، لتكون أوثق اتصالا برخاء المواطنين وصحتهم وسلامتهم في مجموعهم وبإهمال من قارفها لنوع الرعاية التي تطلبها المشرع منه كلما باشر نشاطا معينا، وكذلك إذا أعرض عن القيام بعمل ألقاه عليه باعتباره واجبا، وبمراعاة أن ما توخاه المشرع من إنشائها، هو الحد من مخاطر بذواتها، بتقليل فرص وقوعها، وإنماء القدرة على السيطرة عليها، والتحوط لدرئها.

 وحيث إن القصد الجنائي، يمثل أكثر العناصر تعقيدا في المجال الجنائي، باعتباره متصلا بالحالة الذهنية التي كان عليها الجاني حين أقدم مختارا على إتيان الفعل المؤثم قانونا، وكانت تلك الحالة أدخل إلى العوامل الشخصية التي يتعين تمييزها عن العوامل الموضوعية التي تعكس مادية الفعل أو الأفعال التي ارتكبها، والتي يكون الرجوع إليها وتقييمها كاشفا عادة عما عناه منها، وقصد إليه من وراء مقارفتها؛ وكان من المفترض أن الجاني إذا أراد إتيان فعل أو أفعال بذواتها، فقد قصد إلى نتيجتها، فإن توافر هذا القصد - فيما أتاه الجاني من أفعال - يكون هو القاعدة العامة، وليس الاستثناء منها، وهو استثناء لا يقوم بالضرورة، ولا يتصور عقلا، إذا كانت إرادة الجاني تبلور انصرافها إلى إتيان أفعال محددة بغرض إحداث نتيجة إجرامية بعينها. وإنما ينحصر هذا الاستثناء في حدود ضيقة، تقوم الجريمة فيها على إهمال نوع من الرعاية كان ينبغي أن يلتزمها الجاني فيما أتاه، لتكون الجريمة عندئذ عائدة في بنيانها إلى الخطأ، وجوهرها أعمال يخالطها سوء التقدير، أو ينتفي عنها الاحتراس والتبصر، أو تتمحض عن رعونة لا حذر فيها، ومن ثم أحاطها القانون الجنائي بالجزاء، مُحددا ضابطها بما كان ينبغي أن يكون سلوكا لأوساط الناس، يقوم على واجبهم في التزام قدر معقول من التحوط  لتمثل الجريمة غير العمدية انحرافا ظاهرا عن ذلك المقياس، يتحدد بقدره، نوع الجزاء عنها، ومقداره. ومن ثم يكون الفارق بين عمدية الجريمة، وما دونها، دائرا أصلا - وبوجه عام - حول النتيجة الإجرامية التي أحدثتها، فكلما أرادها الجاني وقصد إليها، موجها جهده لتحقيقها، كانت الجريمة عمدية. فإن لم يقصد إلى إحداثها، بأن كان لا يتوقعها، أو ساء تقديره بشأنها، فلم يتحوط لدفعها ليحول دون بلوغها، فإن الجريمة تكون غير عمدية يتولى المشرع دون غيره بيان عناصر الخطأ التي تكونها، وهي عناصر لا يجوز افتراضها أو انتحالها، ولا نسبتها لغير من ارتكبها، ولا اعتباره مسئولا عن نتائجها، إذا انفك اتصالها بالأفعال التي أتاها، ذلك أن مسئوليته الجنائية عن هذا الخطأ، مسئولية شخصية لا تقوم إلا بتوافر أركانها، وهي بعد مسئولية يحققها القاضي، ويستمد عناصرها من عيون الأوراق، ليكون ثبوتها يقينيا لا ظنيا، ضمانا لصون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور، وتوكيدا لامتناع تقييدها بغير الوسائل القانونية السليمة التي لا يترخص أحد في التحلل منها.

 

الجرائم غير العمدية

وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن الجرائم غير العمدية لا تقوم إلا على الخطأ، وأن صوره على اختلافها يجمعها معيار عام يتمثل في انحرافها عما يعد - وفقا للقانون الجنائي - سلوكا معقولا للشخص المعتاد، وأن هذه الصور على تعددها، تتباين فيما بينها سواء في نوع المخاطر التي تقارنها، أو درجتها. ويتعين بالتالي أن يتدخل المشرع ليحدد ما يكون منها مؤثما في تقديره، مع بيان عناصر الخطأ في كل منها تعريفا بها، وقطعا لكل جدل حول ماهيتها، توقيا لالتباسها بغيرها، وتعيينا جليا لما ينبغي على المخاطبين بالنصوص العقابية أن يأتوه أو يَدعَوه من أفعال، إذ لا يجوز لمثل هذه النصوص، أن تُحّمل الناس مالا يطيقون، ولا أن تؤاخذهم بما يجهلون، ولا أن تمد إليهم بأسها وقد كانوا غير منذرين، ولا أن تنهاهم عما ألبس عليهم، وإلا قام التجريم فيها على أساس من الظن والإبهام، ليكون خداعا أو ختالا. وهو ما تأباه النظم العقابية جميعها، وينحدر بآدمية الإنسان إلى أدنى مستوياتها، ليغدو بغير حقوق - وعلى الأخص - في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية. يؤيد ذلك أمران: أولهما أن الأصل في النصوص العقابية، أن تصاغ في حدود ضيقة تعريفا بالأفعال التي جرمها المشرع، وتحديدا لمضمونها، فلا يكون التجهيل بها - من خلال انفلات عباراتها وإرهاقها بتعدد تأويلاتها - موطئا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التي تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة، وكذلك بالحق في تكامل الشخصية، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع.

 

تقدير العقوبة

ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة، وتقرير أحوال فرضها، مما يدخل في إطار تنظيم الحقوق، ويندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ولازمها ألا تكون النصوص العقابية [شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها، أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها]. ثانيهما: أن الأصل في الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين باعتباره مسئولا عنها، وهي بعد عقوبة يجب أن تتوازن "وطأتها" مع طبيعة الجريمة موضوعها. بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله. وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن "شخصية العقوبة" "وتناسبها مع الجريمة محلها" مرتبطان بمن يعد قانونا "مسئولا عن ارتكابها". ومن ثم تفترض شخصية العقوبة - التي كفلها الدستور بنص المادة 66 - شخصية المسئولية الجنائية، بما يؤكد تلازمهما. ذلك أن الشخص لا يكون مسئولا عن الجريمة، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلا لها أو شريكا فيها. وحيث إن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين، في تنظيمها لبعض العلائق التي يرتبط بها الأفراد في ما بين بعضهم البعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أن القانون الجنائي يفارقها، في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي – ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم، لا يكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور. متى كان ذلك، وكان الجزاء الجنائي عقابا واقعا بالضرورة في إطار اجتماعي، ومنطويا غالبا - من خلال قوة الردع - على تقييد الحرية الشخصية، ومقررا لغرض محدد، استيفاء لقيم ومصالح اجتماعية لها وزنها؛ وكان الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر، نأيا بها عن أن تكون إيلاما غير مبرر، يؤكد قسوتها في غير ضرورة.

 

 

الدعوى رقم 28 لسنة 17 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

نص الحكم

 

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة في يوم السبت 2 ديسمبر سنة 1995م الموافق 9 رجب 1416هـ.

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

وحضور السادة المستشارين: فاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله.

أعضاء

وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ أحمد عطية أحمد منسي

أمين السر

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 28 لسنة 17 قضائية "دستورية". بعد أن أحالت محكمة دمنهور الابتدائية (د/11) ملف الدعوى رقم 17126 لسنة 1994 جنح مستأنف دمنهور.

المقامة من

 نيابة دمنهور الكلية

 ضد

السيد/ ...

الإجراءات

بتاريخ 12 ابريل 1995، ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 17126 لسنة 1994 جنح مستأنف دمنهور، بعد أن قضت محكمة دمنهور الابتدائية (د/11) بوقف الدعوى وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص المادة 2/1 من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش، والمادة 18 من القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى بالنسبة إلى شقها الأول، وبرفض شقها الثاني.

وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة، كانت قد اتهمت ... في القضية رقم 2685 جنح شبراخيت بأنه في يوم 24 مارس 1994، بدائرة مركز شبراخيت، عرض للبيع شيئاً من أغذية الإنسان غير صالح للاستهلاك الآدمي على النحو المبين بالأوراق، وطلبت عقابه بالمواد 2/1 و7 و8 و9 من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش، وكذلك بالمواد 1 و2/1 و6/1 و18 من القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها. وبجلسة 10/8/1994 قضت محكمة جنح شبراخيت حضوريا بتغريم المتهم مائه جنيه والمصادرة والنشر والمصاريف. فاستأنف هذا الحكم، وقضي غيابيا بجلسة 29/9/1994 بقبول الاستئناف شكلا ورفضه موضوعا وتأييد الحكم المستأنف. وإذ عارض المتهم في ذلك الحكم أمام محكمة دمنهور الابتدائية (د/11) في قضية النيابة العامة رقم 17126 لسنة 1994 جنح مستأنف دمنهور فقد أصدرت بجلسة 31/1/1995، وبعد أن تراءى لها أن البند (1) من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941، وكذلك نص المادة 18 من القانون رقم 10 لسنة 1966 المشار إليهما ينطويان على افتراض علم المتهم بغش الأغذية أو فسادها بالنسبة إلى مشتغلين بالاتجار فيها، ويناقضان بالتالي افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة 67 من الدستور، مما حملها على وقف الدعوى الجنائية المنظورة أمامها، وإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية هذين النصين.

وحيث إنه فيما يتعلق بشق الدعوى الدستورية الخاص بالطعن بعدم دستورية نص البند (1) من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش، فقد سبق أن تناولت المحكمة الدستورية العليا هذه المسألة عينها بحكمها الصادر في 20 مايو 1995 في القضية رقم 31 لسنة 16 قضائية "دستورية" الذي قضى بعدم دستورية البند الأول من المادة الثانية من هذا القانون قبل تعديلها بالقانون رقم 281 لسنة 1994. وإذ نشر هذا الحكم بالجريدة الرسمية في 8 يونيو 1995، فإن الخصومة في هذا الشق من الدعوى الدستورية تكون منتهية، بعد أن حسمتها المحكمة الدستورية العليا بحكمها المشار إليه، وهو حكم لا رجوع فيه ولا تعقيب عليه، بالنظر إلى الحجية المطلقة التي أسبغها المشرع على قضائها في المسائل الدستورية. ومن ثم تكون الخصومة منتهية في هذا الشق من الدعوى الدستورية.

وحيث أن النعي على المادة 18 من القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، - وهي الشق الآخر من الدعوى الدستورية - مخالفتها للدستور، فإن نصها يجري كالآتي: [يعاقب من يخالف أحكام المواد 2 و10 و11 و12 و14 و14 مكررا والقرارات المنفذة لها بعقوبة المخالفة، وذلك إذا كان المتهم حسن النية. ويجب أن يقضي الحكم بمصادرة المواد الغذائية موضوع الجريمة].

وحيث إن التنظيم التشريعي لمراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، يدل على أن صون صحة الإنسان، كان دوما من أولى المهام التي تقوم عليها الدولة، وفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في المادتين 16، 17 من الدستور ويندرج تحت ذلك ضمان خلو أغذيته من الأمراض والتقيد بمستوياتها الصحية ومواصفتها، ومن ثم حدد القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، الأحوال التي يكون فيها تداول الأغذية محظورا، ذلك أن هذا القانون، بعد أن نص في مادته الأولى على أن يقصد بتداول الأغذية، أية عملية أو أكثر من عمليات تصنيعها أو تحضيرها أو طرحها للبيع أو تخزينها أو نقلها أو تسليمها، أردفها بالمادة الثانية التي حظر بموجبها تداول الأغذية في أحوال بعينها هي: 1- إذا كانت غير مطابقة للمواصفات الواردة في التشريعات النافذة. 2- إذا كانت غير صالحة للاستهلاك الآدمي. 3- إذا كانت مغشوشة.

وتقضي المادة الثالثة من هذا القانون، بأن الأغذية تعتبر غير صالحة للاستهلاك الآدمي إذا كانت ضارة بالصحة أو كانت فاسدة أو تالفة. وتعتبر الأغذية ضارة بالصحة - وعملاً بالمادة 4 من ذلك القانون - في الأحوال الآتية:

 (1) إذا كانت ملوثة بميكروبات أو طفيليات من شأنها إحداث المرض بالإنسان. (2) إذا كانت تحتوي على مواد سامة تحدث ضررا لصحة الإنسان إلا في الحدود المقررة بالمادة 11. (3) إذا تداولها شخص مريض بأحد الأمراض المعدية التي تنقل عدواها إلى الإنسان عن طريق الغذاء أو الشراب، أو حامل لميكروباتها، وكانت هذه الأغذية معرضة للتلوث. (4) إذا كانت ناتجة من حيوان مريض بأحد الأمراض التي تنتقل إلى الإنسان أو من حيوان نافق. (5) إذا امتزجت بالأتربة أو بالشوائب بنسبة تزيد على النسب المقررة، أو كان يستحيل تنقيتها منها. (6) إذا احتوت على مواد ملوثة، أو مواد حافظة، أو أية مواد أخرى محظور استعمالها. (7) إذا كانت عبواتها أو لفائفها، تحتوي على مواد ضارة بالصحة.

 وتنص المادة 5 من هذا القانون، على أن الأغذية تعتبر فاسدة أو تالفة، إذا تغير تركيبها أو خواصها الطبيعية من حيث طعمها أو رائحتها أو مظهرها نتيجة تحليلها كيماويا أو ميكروبيا، وكذلك إذا انتهى التاريخ المحدد لاستعمالها، أو احتوت على يرقات أو ديدان أو حشرات أو فضلات أو مخلفات حيوانية.

 ويعتبر الغش متحققا في الأغذية - وعملا بنص المادة 6 من القانون - إذا كانت غير مطابقة للمواصفات المقررة، أو تم خلطها أو مزجها بمادة أخرى تغير من طبيعتها، أو جودة صنفها، أو بإبدال مادة تقل جودة عن تلك التي تدخل في تركيبها أو يتعمد إخفاء فسادها أو تلفها أو بانتزاع أحد عناصرها سواء بصفة كلية أو جزئية، أو باحتوائها على عناصر غذائية فاسدة، نباتية كانت أم حيوانية، وكذلك إذا كانت بيانات عبواتها مخالفة لحقيقة تركيبها مما يؤدي لخداع مستهلكها أو الإضرار به صحياً.

 وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية، لازما للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع، وكان الاتهام المثار في الدعوى الجنائية يتعلق بقيام المتهم ببيع أغذية محظور تداولها، وكانت المادة الثانية من القانون رقم 10 لسنة 1966 المشار إليه، هي التي تحدد الأحوال التي لا يجوز فيها تداول الأغذية سواء لفسادها أو تلفها، أو لإضرارها بالصحة العامة، أو لقيام الدليل على غشها أو مخالفتها لمواصفاتها المقررة قانونا؛ وكانت المادة 18 من هذا القانون، التي أحالتها محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستوريتها، تقضى بإيقاع عقوبة المخالفة على من يخالفون أحكام المواد 2 و10 و11 و12 و14 و14 مكرراً منه، وذلك إذا كان المتهم حسن النية، فإن نطاق الطعن الماثل لا يمتد إلى كل الأحكام التي تحيل إليها المادة 18 من ذلك القانون، بل يقتصر على مادة وحيدة من بينها، هي مادته الثانية.

وحيث إن الدستور عهد إلى كل من السلطتين التشريعية والقضائية بمهام قصرها عليهما، فلا تتداخل الولايتان أو تتماسا، ذلك إن الدستور ناط بالسلطة التشريعية سن القوانين وفقا لأحكامه، فنص في المادة 86 على أن "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع، ويقر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على الوجه المبين في الدستور". كذلك أسند الدستور إلى السلطة القضائية ولاية الفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور. فنص في المادة 165 على أن "السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون". وحيث إن الدستور - في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة، ومتابعة خطاها، والتقيد بمناهجها التقدمية - نص في المادة 66، على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره، يتمثل أساسا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء - في زواجره ونواهيه - هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها، وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها، منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالي وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثا بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. A persons " intent in any regard is to be inferred from his conduct and ordinarily can be proven only by circumstantial evidence. Regardless of whether intent is general or specefic, intent is proven to the trier of facts by the conduct of the actor which represents an objective, tangible manifistation of behaviour assumed to be reflection of his or her mental state. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم، كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة. وحيث إن الدستور كفل في مادته السابعة والستين، الحق في المحاكمة المنصفة. بما تنص عليه من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة التي تقرر أولاهما: أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره في محاكمة علنية، ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة ومحايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية، أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما: في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة. وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي، وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضي الدستور في المادة 41 بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة، ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما في الدعوى الجنائية، وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها.

وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة أنفة البيان - عند فصلها في الاتهام الجنائي - تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية - التي كفلها الدستور لكل مواطن - بغير الوسائل القانونية التي لا يترخص أحد في التقيد بها، أو النزول عنها؛ وكان افتراض براءة المتهم، يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد غدا من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك، أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.

 وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التي يقوم عليها، صون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها، مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد - وإن كانت إجرائية في الأصل - إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية - وعلى امتداد مراحلها - يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67، مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما سلف البيان، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان. وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد، سواء كان مشتبها فيه أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي، أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام، ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته، لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها، وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها، ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الاقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها، قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا. وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها، إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى، وأقامها بديلا عنها innocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption. It does not rest on any other proved facts  it is assumed. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وهو كذلك من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور. ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، ليوفر من خلالها لكل فرد، الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية يحدثها.

وحيث إن من المقرر كذلك أن افتراض البراءة يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية إلزامية، تعتبر من زاوية دستورية وثيقة الصلة بالحق في الدفاع، من بينها حق المتهم في مواجهة الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، وكذلك الحق في هدمها بأدلة النفي التي يقدمها. وحيث إن الأصل في الجرائم، أنها تعكس تكوينا مركبا باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها (an evil - doing hand)  وعقل واع خالطها (an evil - meaning mind) ليهيمن عليها محددا خطاها، متوجها إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، ليكون القصد الجنائي (mens Rea) ركنا معنويا في الجريمة مكملا لركنها المادي (Actus Reus) ومتلائما مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية، هي التي تتطلبها الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنا في الجريمة، وأصلا ثابتا كامنا في طبيعتها، وليس أمرا فجا أو دخيلا مقحما عليها أو غريبا عن خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعنى حرية الاختيار بين الخير والشر، ولكل وجهة هو موليها، لتنحل الجريمة - في معناها الحق - إلى علاقة ما بين العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التي تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التي يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلا عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها. وغدا أمرا ثابتا - وكأصل عام - ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديا قائما على الاختيار الحر. ومن ثم مقصودا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفا على ماهيتها، لازال أمرا عسرا، إلا أن معناها - وبوصفها ركنا معنويا في الجريمة - يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية أو الجانحة Felonious intent أو النوازع الشريرة المدبرة  malice aforethought أو تلك التي يكون الخداع قوامها Fraudulent intent أو التي تتمحض عن علم بالتأثيم مقترنا بقصد اقتحام حدوده guilty knowledge  لتدل جميعها على إرادة إتيان فعل بغياً. وحيث إن هذا الأصل - وإن ظل محورا للتجريم - إلا أن المشرع عمد أحيانا - من خلال بعض اللوائح - إلى تقرير جرائم عن أفعال لا يتصل بها قصد جنائي باعتبار أن الأثم ليس كامنا فيها، ولا تدل بذاتها على ميل إلى الشر والعدوان، (inherently wrong) mala in se ولا يختل بها قدر مرتكبها أو اعتباره، وإنما ضبطها المشرع تحديدا لمجراها، وحدا من مخاطرها، وأخرجها بذلك عن مشروعيتها  mala prohibita وهي الأصل - وجعل عقوبتها متوازنة مع طبيعتها، فلا يكون أمرها غلوا من خلال تغليظها، بل هينا في الأعم. وقد بدا هذا الاتجاه متصاعدا إثر الثورة الصناعية التي تزايد معها عدد العمال المعرضين لمخاطر أدواتها وآلاتها ومصادر الطاقة التي تحركها. واقترن ذلك بتعدد وسائل النقل وتباين قوتها، وبتكدس المدن وازدحام أحيائها، وبغلبة نواحي الإخلال بالصحة العامة، وبوجه خاص من خلال الاتصال بالمواد الغذائية سواء عند إنتاجها أو توزيعها وتداولها أو بمراعاة نوعيتها. وكان لازما بالتالي - ولمواجهة تلك المخاطر - أن يفرض المشرع على المسئولين عن إدارة الصناعة أو التجارة وغيرهم، قيودا كثيرة غايتها أن ينتهج المخاطبون بها سلوكا قويما موحدا، ببذل العناية التي يتوقعها المشرع من أوساطهم، ليكون النكول عنها - وبغض النظر عن نواياهم - دالا على تراخي يقظتهم، ومستوجبا عقابهم. غير أن تقرير هذا النوع من الجرائم في ذلك المجال، ظل مرتبطا بطبيعتها ونوعيتها، ومنحصرا في الحدود الضيقة التي تقوم فيها علاقة مسئولية بين من يرتكبها، وخطر عام، لتكون أوثق اتصالا برخاء المواطنين وصحتهم وسلامتهم في مجموعهم Public Welfare Offenses  وبإهمال من قارفها لنوع الرعاية التي تطلبها المشرع منه كلما باشر نشاطا معينا، وكذلك إذا أعرض عن القيام بعمل ألقاه عليه باعتباره واجبا، وبمراعاة أن ما توخاه المشرع من إنشائها، هو الحد من مخاطر بذواتها، بتقليل فرص وقوعها، وإنماء القدرة على السيطرة عليها، والتحوط لدرئها.

 وحيث إن القصد الجنائي، يمثل أكثر العناصر تعقيدا في المجال الجنائي، باعتباره متصلا بالحالة الذهنية التي كان عليها الجاني حين أقدم مختارا على إتيان الفعل المؤثم قانونا، وكانت تلك الحالة أدخل إلى العوامل الشخصية التي يتعين تمييزها عن العوامل الموضوعية التي تعكس مادية الفعل أو الأفعال التي ارتكبها، والتي يكون الرجوع إليها وتقييمها كاشفا عادة عما عناه منها، وقصد إليه من وراء مقارفتها؛ وكان من المفترض أن الجاني إذا أراد إتيان فعل أو أفعال بذواتها، فقد قصد إلى نتيجتها، فإن توافر هذا القصد - فيما أتاه الجاني من أفعال - يكون هو القاعدة العامة، وليس الاستثناء منها، وهو استثناء لا يقوم بالضرورة، ولا يتصور عقلا، إذا كانت إرادة الجاني تبلور انصرافها إلى إتيان أفعال محددة بغرض إحداث نتيجة إجرامية بعينها. وإنما ينحصر هذا الاستثناء في حدود ضيقة، تقوم الجريمة فيها على إهمال نوع من الرعاية كان ينبغي أن يلتزمها الجاني فيما أتاه، لتكون الجريمة عندئذ عائدة في بنيانها إلى الخطأ، وجوهرها أعمال يخالطها سوء التقدير، أو ينتفي عنها الاحتراس والتبصر، أو تتمحض عن رعونة لا حذر فيها، ومن ثم أحاطها القانون الجنائي بالجزاء، مُحددا ضابطها بما كان ينبغي أن يكون سلوكا لأوساط الناس، يقوم على واجبهم في التزام قدر معقول من التحوط [Ordinary reasonable person"s standard of care] لتمثل الجريمة غير العمدية انحرافا ظاهرا عن ذلك المقياس، يتحدد بقدره، نوع الجزاء عنها، ومقداره.  [A deviation from and proportional to the level of established standards of reasonable care in conduct] ومن ثم يكون الفارق بين عمدية الجريمة، وما دونها، دائرا أصلا - وبوجه عام - حول النتيجة الإجرامية التي أحدثتها، فكلما أرادها الجاني وقصد إليها، موجها جهده لتحقيقها، كانت الجريمة عمدية. فإن لم يقصد إلى إحداثها، بأن كان لا يتوقعها، أو ساء تقديره بشأنها، فلم يتحوط لدفعها ليحول دون بلوغها، فإن الجريمة تكون غير عمدية يتولى المشرع دون غيره بيان عناصر الخطأ التي تكونها، وهي عناصر لا يجوز افتراضها أو انتحالها، ولا نسبتها لغير من ارتكبها، ولا اعتباره مسئولا عن نتائجها، إذا انفك اتصالها بالأفعال التي أتاها، ذلك أن مسئوليته الجنائية عن هذا الخطأ، مسئولية شخصية لا تقوم إلا بتوافر أركانها [pas de peine sans culpabilité]، وهي بعد مسئولية يحققها القاضي، ويستمد عناصرها من عيون الأوراق، ليكون ثبوتها يقينيا لا ظنيا، ضمانا لصون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور، وتوكيدا لامتناع تقييدها بغير الوسائل القانونية السليمة التي لا يترخص أحد في التحلل منها. وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن الجرائم غير العمدية لا تقوم إلا على الخطأ، وأن صوره على اختلافها يجمعها معيار عام يتمثل في انحرافها عما يعد - وفقا للقانون الجنائي - سلوكا معقولا للشخص المعتاد، وأن هذه الصور على تعددها، تتباين فيما بينها سواء في نوع المخاطر التي تقارنها، أو درجتها. ويتعين بالتالي أن يتدخل المشرع ليحدد ما يكون منها مؤثما في تقديره، مع بيان عناصر الخطأ في كل منها تعريفا بها، وقطعا لكل جدل حول ماهيتها، توقيا لالتباسها بغيرها، وتعيينا جليا لما ينبغي على المخاطبين بالنصوص العقابية أن يأتوه أو يَدعَوه من أفعال، إذ لا يجوز لمثل هذه النصوص، أن تُحّمل الناس مالا يطيقون، ولا أن تؤاخذهم بما يجهلون، ولا أن تمد إليهم بأسها وقد كانوا غير منذرين، ولا أن تنهاهم عما ألبس عليهم، وإلا قام التجريم فيها على أساس من الظن والإبهام، ليكون خداعا أو ختالا. وهو ما تأباه النظم العقابية جميعها، وينحدر بآدمية الإنسان إلى أدنى مستوياتها، ليغدو بغير حقوق - وعلى الأخص - في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية. يؤيد ذلك أمران: أولهما أن الأصل في النصوص العقابية، أن تصاغ في حدود ضيقة narrowly tailored تعريفا بالأفعال التي جرمها المشرع، وتحديدا لمضمونها، فلا يكون التجهيل بها - من خلال انفلات عباراتها وإرهاقها بتعدد تأويلاتها - موطئا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين، كتلك التي تتعلق بحرية عرض الآراء وضمان تدفقها من مصادرها المختلفة، وكذلك بالحق في تكامل الشخصية، وأن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة، وتقرير أحوال فرضها، مما يدخل في إطار تنظيم الحقوق، ويندرج تحت السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ولازمها ألا تكون النصوص العقابية [شباكا أو شراكا يلقيها المشرع متصيدا باتساعها، أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها]. ثانيهما: أن الأصل في الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين باعتباره مسئولا عنها، وهي بعد عقوبة يجب أن تتوازن "وطأتها" مع طبيعة الجريمة موضوعها. بما مؤداه أن الشخص لا يزر غير سوء عمله. وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن "شخصية العقوبة" "وتناسبها مع الجريمة محلها" مرتبطان بمن يعد قانونا "مسئولا عن ارتكابها". ومن ثم تفترض شخصية العقوبة - التي كفلها الدستور بنص المادة 66 - شخصية المسئولية الجنائية، بما يؤكد تلازمهما. ذلك أن الشخص لا يكون مسئولا عن الجريمة، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلا لها أو شريكا فيها. وحيث إن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين، في تنظيمها لبعض العلائق التي يرتبط بها الأفراد في ما بين بعضهم البعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أن القانون الجنائي يفارقها، في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد - ومن منظور اجتماعي - ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعيا ممكنا، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم، لا يكون مبررا، إلا إذا كان مفيدا من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزا تلك الحدود التي لا يكون معها ضروريا، غدا مخالفا للدستور. متى كان ذلك، وكان الجزاء الجنائي عقابا واقعا بالضرورة في إطار اجتماعي، ومنطويا غالبا - من خلال قوة الردع - على تقييد الحرية الشخصية، ومقررا لغرض محدد، استيفاء لقيم ومصالح اجتماعية لها وزنها؛ وكان الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر، نأيا بها عن أن تكون إيلاما غير مبرر، يؤكد قسوتها في غير ضرورة unnecessary cruelty and pain؛ وكانت المادة 18 من القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها - والتي أحالتها محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستوريتها - تقرر جزاء جنائيا يقوم على مجرد مخالفة أحكام المواد 2، 10، 11، 12، 14، 14 مكررا من هذا القانون، إذا كان مقارفها حسن النية؛ وكان نطاق الدعوى الدستورية الراهنة - محددا على ضوء الاتهام المنسوب إلى المتهم - يقوم على الطعن بعدم دستورية إيقاع عقوبة المخالفة في شأن متهم كان حسن النية حين أخل بنص المادة الثانية من ذلك القانون، التي تحظر تداول الأغذية التي يقوم الدليل على غشها، أو عدم صلاحية استهلاكها آدميا، أو مخالفتها لمواصفاتها المحددة قانونا، سواء عند تصنيعها أو تحضيرها أو طرحها للبيع أو تخزينها أو نقلها أو تسليمها؛ وكان هذا التداول - بمختلف صوره - يتعلق بسلع شتى تتباين مصادرها، ولا يقع التعامل فيها، أو الاتصال بها، مرة واحدة، بل تتناولها أيد عديدة، وعلى الأخص منذ خروجها من يد منتجها أو جالبها، إلى أن تصل إلى عارضها الأخير، وبافتراض خضوعها لنظم الفحص والرقابة التي تباشرها الجهات الحكومية ذات الاختصاص، وعلى الأقل داخل مصادر إنتاجها المحلية، أو قبل تجاوزها الدائرة الجمركية حال جلبها؛ وكان النص المطعون فيه - إخلالا بنص المادة الثانية من القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، وكانت عبارة [حسن النية] وإن جاز القول بتعدد معانيها، تبعا لموقعها من سياق النصوص القانونية التي انتظمتها، وبمراعاة ما تغياه المشرع من هذه النصوص، مُحَدِّدا - من خلال أغراضها - إطاراً للدائرة التي تعمل فيها، إلا أن حسن نية من يتداولون أغذية الإنسان، يفترض تعاملهم فيها، أو اتصالهم بها، بوصفهم مواطنين شرفاء، يتقيدون بأصول مهنتهم ويلتزمون بمتطلباتها. وحيث إن العقوبة التي فرضها النص المطعون فيه كجزاء على الأفعال التي أثمها، هي عقوبة المخالفة. وانحدارها على هذا النحو، يفيد تعلقها بأفعال لا يتعمدها مرتكبها، ولاتصل خطورتها إلى حد الإيغال في الجزاء عليها، ليكون قوامها خطأ اتخذ من مفهوم الجريمة غير العمدية، إطارا. وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان ركن الخطأ في الجرائم غير العمدية، ليس إلا فعلا أو امتناعا يمثل انحرافا عما يُعد وفقا للقانون الجنائي سلوكا معقولا للشخص المعتاد؛ وكان تحديد مضمون الأفعال أو مظاهر الامتناع التي تقوم عليها هذه الجرائم، من خلال بيان عناصر الخطأ، بما ينفى التجهيل بها، ضرورة يقتضيها اتصال هذا التجريم بالحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز النزول عنها أو الإخلال بها؛ وكان النص المطعون فيه قد قرر جزاء جنائيا في شأن متهم حسن النية - بالمفهوم السالف البيان - وعن صور من الخطأ قَصَرُ عن تعيينها من خلال تحديد عناصرها؛ فإن هذا النص يكون قد أخل بالحرية الشخصية، وبضمانة الدفاع، وكذلك بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة، ويندرج تحتها افتراض البراءة، وجاء بذلك مخالفا لأحكام المواد 1 4، 67، 69 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 18 من القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها وذلك فيما تضمنته من معاقبة من يخالف أحكام المادة الثانية من هذا القانون بعقوبة المخالفة إذا كان حسن النية. وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

 

العودة للصفحة الرئيسية