المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 177 لسنة 26 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

مبادئ الحكم: الحق في العمل

نص الحكم

باسم الشعب 

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم الأحد 14 يناير سنة 2007 م، الموافق 25 ذي الحجة سنة 1427 هـ

برئاسة السيد المستشار/ ماهر عبد الواحد

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ ماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله وأنور رشاد العاصي وإلهام نجيب نوار وسعيد مرعي عمرو

أعضاء

وحضور السيد المستشار/ نجيب جمال الدين علما

رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد/ ناصر إمام محمد حسن

أمين السر

 

 

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 177 لسنة 26 قضائية "دستورية"، المحالة من المحكمة الإدارية لوزارة النقل والمواصلات بمجلس الدولة بموجب حكمها الصادر بجلسة 17/5/2004، في الدعوى رقم 474 لسنة 46 قضائية.

المقامة من

السيد/ ...

ضد

1- السيد/ وزير النقل والمواصلات

2- السيد/ رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية لسكك حديد مصر

3- السيد/ مدير إدارة أقسام حركة القاهرة لسكك حديد مصر

الإجراءات

بتاريخ الخامس والعشرين من شهر أغسطس سنة 2004، ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 474 لسنة 46 ق، بعد أن قضت المحكمة الإدارية لوزارة النقل والمواصلات بمجلس الدولة بجلسة 17/5/2004 بوقف نظر الدعوى وإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية نص المادة (112) من لائحة العاملين بالهيئة القومية لسكك حديد مصر، فيما لم يتضمنه من ضرورة إنذار العامل قبل إنهاء خدمته للانقطاع.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.

ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.

حيث إن الوقائع - على ما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق - تتحصل في أن المدعي كان قد أقام الدعوى رقم 474 لسنة 46 ق، أمام المحكمة الإدارية لوزارة النقل والمواصلات، طالبا الحكم بوقف تنفيذ القرار رقم 346 لسنة 1999 الصادر من إدارة أقسام حركة القاهرة بالهيئة القومية لسكك حديد مصر بنقله من وظيفة إلى أخرى، وأثناء تداول الدعوى عدل المدعي طلباته بإضافة طلب جديد بوقف تنفيذ وإلغاء القرار رقم 787 لسنة 1999 الصادر بإنهاء خدمته لتغيبه عن العمل، لعدم إنذاره قبل إصدار القرار. وإذ تراءى لمحكمة الموضوع شبهة عدم دستورية نص المادة (112) من لائحة العاملين بهيئة سكك حديد مصر، التي صدر قرار إنهاء خدمة المدعي بناء عليها، فقد أوقفت الدعوى وأحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في ذلك النص فيما لم يتضمنه من تقرير ضرورة إنذار العامل كتابة قبل إنهاء خدمته للانقطاع عن العمل.

وحيث إنه تنفيذا للفقرة (6) من المادة 17 من القانون رقم 153 لسنة 1980 بإنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر، والتي تقضى بتخويل مجلس إدارة الهيئة اقتراح وضع اللائحة المتعلقة بتعيين العاملين بالهيئة وترقيتهم وتحديد رواتبهم ومكافآتهم وسائر شئونهم الوظيفية وتصدر اللائحة بقرار من وزير النقل، أصدر وزير النقل قراره رقم 17 لسنة 1982 بإصدار هذه اللائحة متضمنة النص في المادة (112) منها على أن:

"يعتبر العامل مقدما استقالته في الحالات الآتية:

1- إذا انقطع عن عمله بغير إذن أكثر من ثلاثين يوما متتالية، ما لم يقدم خلال الخمسة عشر يوما التالية ما يثبت أن انقطاعه كان خارجا عن إرادته وبعذر مقبول، وفي هذه الحالة يجوز للسلطة المختصة أن تقرر عدم حرمانه من أجره عن مدة الانقطاع إذا كان له رصيد من الأجازات يسمح بذلك، وإلا وجب حرمانه من أجره عن هذه المدة، فإذا لم يقدم العامل أسبابا تبرر الانقطاع أو قدم هذه الأسباب ورفضت اعتبرت خدمته منتهية من تاريخ انقطاعه عن العمل.

2- إذا انقطع عن عمله بغير إذن مددا تبلغ أكثر من خمسة وأربعين يوما غير متصلة في السنة ولم يقدم عذرا تقبله الهيئة فتعتبر خدمته منتهية من اليوم التالي لاكتمال هذه المدة.

3- إذا التحق بخدمة أية جهة أجنبية بغير ترخيص من حكومة جمهورية مصر العربية، وفي هذه الحالة تعتبر خدمته منتهية من تاريخ التحاقه بالخدمة في الجهة الأجنبية.

وفي جميع الأحوال لا يجوز اعتبار العامل مستقيلا إذا كان قد اتخذ ضده أي إجراءات تأديبية خلال الشهر التالي لانقطاعه عن العمل أو لالتحاقه بالخدمة في الجهة الأجنبية أيهما أسبق".

وحيث إن المحكمة الإدارية لوزارة النقل والمواصلات قد أوردت في حكمها بالإحالة أن المادة المشار إليها، وقد خلت من ثمة ما يلزم جهة الإدارة بأن تقوم بإنذار العامل كتابة قبل إنهاء خدمته للانقطاع، تكون قد أهدرت ضمانة جوهرية للعامل لا يجوز إغفالها ليستبين لها إصرار العامل على تركه وعزوفه، وذلك على خلاف نص المادة (98) من قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة رقم 47 لسنة 1978 رغم وحدة المركز القانوني للعاملين في الحالتين بما يتضمن إخلالا بمبدأ المساواة المنصوص عليه في المادة (40) من الدستور.

وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها، على ما جرى به قضاء هذه المحكمة، أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازما للفصل في الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع. متى كان ذلك، وكان النزاع الموضوعي يدور حول طلب المدعي وقف تنفيذ وإلغاء قرار إنهاء خدمته بسبب انقطاعه عن العمل أكثر من ثلاثين يوما متصلة لعدم إنذاره، فإن نطاق الدعوى الدستورية يتحدد بالفقرة (1) من المادة (112) المشار إليها فيما لم تتضمنه من ضرورة إنذار العامل المنقطع عن العمل لمدة أكثر من ثلاثين يوما متصلة قبل إنهاء خدمته، وذلك دون باقي الأحكام التي اشتملت عليها تلك المادة.

وحيث إن المسلم به أن الاستقالة - سواء الصريحة أم الضمنية - إنما تقوم على إرادة العامل، حيث تستند الاستقالة الصريحة إلى طلب كتابي يقدمه العامل بينما تقوم الاستقالة الضمنية على اتخاذه موقفا ينبئ عن انصراف نيته إلى ترك العمل بحيث لا تدع ظروف الحال أي شك في دلالته على حقيقة المقصود منه - ويتمثل هذا الموقف في إصرار العامل على الانقطاع عن العمل. وقد أخذ المشرع هذا الأمر في الحسبان عند صياغته لنص المادة الطعينة وكذا نص المادة (98) من قانون العاملين المدنيين بالدولة بقوله "يعتبر العامل مقدما استقالته..."، فأراد أن يرتب على الاستقالة الضمنية - إذا ما توافرت عناصرها وتكاملت أركانها - ذات الأثر المترتب على الاستقالة الصريحة وهي انتهاء خدمة العامل. ولخطورة هذه القرينة على الحياة الوظيفية للعامل فقد أحاطها المشرع في المادة (98) المشار إليها بإجراءات وضمانات الغرض منها الاستيثاق من موقف العامل بحيث يترتب على مخالفة تلك الإجراءات أن يضحى القرار الصادر بإنهاء الخدمة مخالفا للقانون".

ويتعين لإعمال أثر القرينة القانونية المترتبة على انقطاع العامل عن العمل بإنهاء خدمته، أن تقوم جهة الإدارة بإنذاره كتابة، على اعتبار أن الإنذار على هذا النحو إجراء جوهري الغرض منه أن يستبين لها مدى إصراره على ترك العمل وعزوفه عنه - ومن جهة أخرى- إعلانه بما سوف يتخذ قبله من إجراءات حيال هذا الانقطاع حتى يتمكن من إبداء عذره قبل اتخاذ هذه الإجراءات، وكان من المقرر - في قضاء هذه المحكمة - أن الاستقالة الحكمية هي تعبير عن الإرادة الضمنية للعامل، إعرابا منه عن عزوفه عن العمل وإعراضه عن أدائه، فلا يجوز إجباره عليه، وكلتاهما - الاستقالة وما في حكمها - يأتي تقنينا لمبدأ حرية العمل والحق فيه المنصوص عليه في المادتين 13 و14 من الدستور، باعتبار أن الأصل في العمل أن يكون إراديا قائما على الاختيار الحر، وفي غير ذلك لا يكون الإنهاء إلا بالطريق التأديبي.

وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة يعد الشريعة العامة التي تسري على جميع العاملين بالجهات الإدارية المختلفة، إلا أن الطبيعة الخاصة للنشاط الذي تزاوله بعض هذه الجهات أو الاشتراطات اللازم توافرها في العاملين بها قد تقتضي إفراد هؤلاء العاملين بأحكام خاصة تختلف باختلاف ظروف ومقتضيات العمل في كل منها، بما قد يؤدي إلى المغايرة في الأوضاع الوظيفية - أو بعضها - بين العاملين الخاضعين لهذه التشريعات وبين أقرانهم من العاملين الخاضعين لقانون نظام العاملين المدنيين بالدولة، مراعاة للطبيعة الخاصة لتلك الوظائف.

لما كان ذلك، وكانت الهيئة القومية للسكك الحديدية الصادر بإنشائها القانون رقم 153 لسنة 1980، وهي من الهيئات التي خول المشرع مجلس إدارتها حق اقتراح وضع لوائح بأنظمة خاصة لشئون العاملين بها، وقد صدر بلائحة تلك الهيئة قرار وزير النقل رقم 17 لسنة 1982، إلا أن المشرع عند وضعه هذه اللائحة لم ير أثرا للطبيعة الخاصة للنشاط الذي تزاوله الهيئة يقتضي إفراد هؤلاء العاملين بأحكام خاصة في شأن قواعد إنهاء خدمتهم، ومن ثم فقد جاء هذا التنظيم في مجمله مواز ومساو للتنظيم العام، بل حرصت اللائحة على تأكيد هذا المعنى بالنص في المادة (118) منها على اعتبار قانون العاملين المدنيين بالدولة مكملا لها فيما لم يرد به نص خاص فيها، وإذ أغفل المشرع في النص الطعين اشتراط إنذار العامل كتابة قبل إنهاء خدمته للانقطاع - وهو الأمر الذي يشكل إهدارا لضمانة جوهرية للعامل تمتع بها سائر العاملين المدنيين بالدولة، ومن ثم فإنه يكون قد أخل بمبدأ المساواة أمام القانون الذي أرساه الدستور بنص المادة (40) منه بحسبانه ضمانة جوهرية لتحقيق العدل والحرية والسلام الاجتماعي - لا يقتصر نطاق تطبيقه على الحقوق التي كفلها الدستور، وإنما يمتد كذلك إلى ما يكون منها قد تقرر بقانون - أو بأداة تشريعية أدنى - فلا يجوز بعدئذ تقييدها بما يعطلها أو ينال من ممارستها، بل يتعين أن تنتظمها أسس موحدة لا تمييز فيها بين المخاطبين بأحكامها.

لما كان ذلك، وكان من المقرر أن لكل حق أوضاعا يقتضيها، وآثار يرتبها، من بينها في مجال حق العمل، ضمان الشروط التي يكون أداء العمل في نطاقها محددا، وإنهاؤه معبرا حقا وصدقا عن إرادة العامل في العزوف عنه، خاصة إذا كان إنهاء علاقة العمل مرده إلى الإرادة الضمنية للعامل متمثلة في إصراره على الانقطاع، وسيلة للتعبير عن رغبته في التحلل من رابطته، ومن هنا كان حرص المشرع في قانون العاملين المدنيين بالدولة على إلزام جهة الإدارة بإنذار العامل المنقطع عن العمل بعد فترات معينة من انقطاعه، لخطورة هذه القرينة على حياة العامل الوظيفية، وحتى يطمئن إلى سلامة إرادة العامل في الدلالة على رغبته في فصم عرى رابطة العمل. إذ كان ذلك وكان النص الطعين قد أغفل شرط الإنذار الكتابي المسبق للعامل قبل إنهاء خدمته للانقطاع، فإنه بذلك يكون قد أخل بضمانة جوهرية بما ينطوي على تمييز غير مبرر بين العاملين بتلك الهيئة وغيرهم من العاملين الخاضعين لأحكام قانون نظام العاملين المدنيين بالدولة - رغم عدم تمايز أوضاعهم الوظيفية في شأن الحقوق التي ينظمها النص الطعين.

وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الدستور وإن خول السلطة التشريعية بنص المادة (13) تنظيم حق العمل، إلا أنه لا يجوز لها أن تعطل جوهره، وعليها أن تضمن بتنظيمها سلامة شروط أدائه، فلا تنتزع هذه الشروط قسرا من محيطها، ولا ترهق بفحواها بيئة العمل ذاتها، أو تناقض بأثرها ما ينبغي أن يرتبط حقا وعقلا بالشروط الضرورية لأداء العمل بصورة طبيعية لا تحامل فيها، ومن ثم لا يجوز أن تنفصل الشروط التي يتطلبها المشرع لمباشرة عمل أو أعمال بذواتها، عن متطلبات ممارستها وإلا كان تقريرها انحرافا بها عن غايتها، يستوي في ذلك أن يكون سندها علاقة عقدية أو رابطة لائحية. لما كان ذلك، وكانت لائحة العاملين بهيئة السكك الحديدية لم تضمن النص الطعين ضمانة جوهرية في الوقوف على الإرادة الضمنية للعامل في ترك العمل، فإن ذلك يحمل في طياته شبهة إجباره على ترك العمل وإنهائه على خلاف إرادته الحقيقية، ويصم التنظيم اللائحي الذي وضعه المشرع في هذا الشأن بمخالفته نص المادة (13) من الدستور. بل إن إنهاء علاقة العمل دون الاستناد إلى إرادة حقيقية من العامل يجعل الأمر على هذا النحو بمثابة فصل غير جائز حصل بغير الطريق التأديبي مخالفا لنص المادة (14) من الدستور التي لا تجيز ذلك إلا في الأحوال التي يحددها القانون.

وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن كل مخالفة للدستور، سواء تعمدها المشرع أم انزلق إليها بغير قصد، يتعين قمعها. كما أن الدستور يكفل لكل حق أو حرية نص عليها، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وتتمثل هذه الحماية في الضمانة التي يكفلها الدستور لحقوق المواطنين وحرياتهم، والتي يعتبر إنفاذها شرطا للانتفاع بها في الصورة التي تصورها الدستور نطاقا فاعلا لها، وهذه الضمانة ذاتها هي التي يفترض أن يستهدفها المشرع، وأن يعمل على تحقيق وسائلها من خلال النصوص القانونية التي ينظم بها هذه الحقوق وتلك الحريات، وشرط ذلك بطبيعة الحال أن يكون تنظيمها كافلا تنفسها في مجالاتها الحيوية، وأن يحيط بكل أجزائها التي لها شأن في ضمان قيمتها العملية، فإذا نظمها المشرع تنظيما قاصرا، وذلك بأن أغفل أو أهمل جانبا من النصوص القانونية التي لا يكتمل هذا التنظيم إلا بها، كان ذلك إخلالا بضمانتها التي هيأها الدستور لها، وفي ذلك مخالفة للدستور. لما كان ذلك، وكان المشرع لم يضمن النص الطعين شرط الإنذار المسبق للاعتداد بانقطاع العامل عن العمل - قبل إنهاء خدمته - حتى يمكن أن تقوم به القرينة على اتجاه إرادته الضمنية إلى تأكيد رغبته في عدم الاستمرار في العمل، فإن تنظيمه على هذا النحو يكون قاصرا ومخالفا لمبدأ سيادة القانون الذي نصت عليه المادة (64) من الدستور.

وحيث إنه ترتيبا على ما تقدم، يكون النص الطعين قد تردى في حمأة مخالفة أحكام المواد 13 و14 و40 و64 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة (1) من المادة 112 من لائحة نظام العاملين بالهيئة القومية لسكك حديد مصر الصادرة بقرار وزير النقل والمواصلات والنقل البحري رقم 17 لسنة 1982، فيما لم تتضمنه من وجوب إنذار العامل كتابة قبل إنهاء خدمته لانقطاعه عن العمل بغير إذن أكثر من ثلاثين يوما متتالية.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية