المحكمة الدستورية العليا المصرية

 

قضية رقم 105 لسنة 12 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"

 مبادئ الحكم: الحرية الشخصية - جمارك - جنائي - دستور - عقوبة - قانون

نص الحكم
باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 12 فبراير سنة 1994 م، الموافق 2 رمضان سنة 1414 هـ

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر

رئيس المحكمة

والسادة المستشارين/ الدكتور محمد ابراهيم أبو العينين ومحمد ولي الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وعدلي محمود منصور

أعضاء

وحضور السيد المستشار/ نجيب جمال الدين علما

المفوض

وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد

أمين السر

 

أصدرت الحكم الآتي

في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 105 لسنة 12 قضائية "دستورية"

المقامة من

السيد/ ...

ضد

السيد/ رئيس الجمهورية

السيد/ رئيس مجلس الوزراء

السيد/ وزير المالية

السيد/ رئيس مصلحة الجمارك

الإجراءات

بتاريخ 27 من ديسمبر سنة 1990 أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى، طالبا الحكم - وعلى ما يبين منها - بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (121) من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 75 لسنة 1980، وذلك فيما تضمنته من النص على: "أو أي فعل آخر".

أودعت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت في ختامها الحكم برفض الدعوى.

وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها القانوني.

ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة

وحيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد أقامت الدعوى الجنائية في القضية رقم 77 لسنة 1989 جنح مالية ضد المدعي بوصف أنه في يوم 17 من مارس سنة 1987 "بدائرة قسم عابدين" هرب البضائع المبينة وصفا وقيمة بالأوراق من آداء الرسوم الجمركية المستحقة عليها، وكان ذلك بقصد الاتجار، بأن قام بإدخالها إلى البلاد بنظام الإعفاءات الجمركية لأغراض السياحة وتصرف فيها على خلاف الغرض الذي خصص لها، وطلبت عقابه بالمواد 5، 13، 28،121، 122، 124، 124 مكررا من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 75 لسنة 1980، وبالمادتين 6، 22 من القانون رقم 7 لسنة 1973 بشأن المنشآت الفندقية والسياحية، وبجلسة 30 من يناير سنة 1990 قضت محكمة الجرائم المالية الجزئية غيابيا بحبس المدعي سنتين مع الشغل وكفالة خمسمائة جنيه وغرامة ألف جنيه والزامه بدفع مبلغ ثمانمائة وواحد وثمانين ألف وثمانمائة وستة عشر جنيها وسبعين مليما كتعويض للجمارك متضمنة بدل مصادرة والمصروفات الجنائية، ومستندة ضمن النصوص القانونية التي أقامت عليها حكمها على النص التشريعي المطعون فيه، وقد عارض المدعي في هذا الحكم، ودفع أثناء نظر معارضته بجلسة 4 من ديسمبر سنة 1990 بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (121) من قانون الجمارك المشار إليه، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع فقد أجلت نظر المعارضة لجلسة الأول من يناير سنة 1991 مع الترخيص للمدعي بإقامة دعواه الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة، وبجلسة 26 من فبراير سنة 1991 قررت المحكمة المذكورة وقف الدعوى الجنائية تعليقا لحين الفصل في الطعن الراهن بعدم الدستورية.

وحيث إن المادة (121) من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963 - وبعد أن قضت هذه المحكمة بجلسة 2 من فبراير سنة 1992 في الدعوى رقم 13 لسنة 21 قضائية "دستورية" بعدم دستورية هذه المادة فيما تضمنته فقرتها الثانية من افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت في حيازته البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أن الضرائب الجمركية المقررة قد سددت عنها - غدت تنص على ما يأتي: فقرة أولى: "يعتبر تهريبا ادخال البضائع من أي نوع إلى الجمهورية وإخراجها منها بطرق غير مشروعة بدون أداء الضرائب الجمركية المستحقة كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها في شأن البضائع الممنوعة" فقرة ثانية: "ويعتبر في حكم التهريب حيازة البضائع الأجنبية بقصد الاتجار مع العلم بأنها مهربة". كما يعتبر في حكم التهريب تقديم مستندات أو فواتير مزورة أو مصطنعة أو وضع علامات كاذبة أو اخفاء البضائع أو العلامات أو ارتكاب أي فعل آخر يكون الغرض منه التخلص من الضرائب الجمركية المستحقة كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها في شأن البضائع الممنوعة".، كما تنص المادة 122 من القانون ذاته ووفق القواعد المبينة فيها على معاقبة التهريب أو الشروع فيه بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين، وذلك دون الاخلال بأية عقوبة أشد يقضي بها قانون آخر، فضلا عن مصادرة البضائع موضوع التهريب في جميع الأحوال.

وحيث إن المدعي ينعى على الفقرة الثانية من المادة (121) من القانون الجمركي فيما تضمنته من النص على "وارتكاب أي فعل آخر..." مضمونه غير المحدد وغموضه وإمكان تأويله، وانطوائه بالتالي على مخالفة مبدأ ألا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون الذي قررته المادة 66 من الدستور بما يقتضيه من ضرورة تحديد الجرائم تحديدا دقيقا في نصوص قانونية واضحة تبين أركان كل منها والعقوبات المقررة لها.

وحيث إن الجزاء الجنائي كان عبر أطوار قاتمة في التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان، محققا للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعدا بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية، وكان منطقيا وضروريا أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الموضوعية والإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الجماعة في تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها، وكان لازما - في مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته - أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التي ارتأتها على سلطان المشرع في مجال التجريم تعبيرا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافا منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تفرض نظاما متكاملا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون - في اطار أهدافه - حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون اساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها، وقد تحقق ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة ومقاييس أكثر إحكاما لتحديد ماهية الافعال المنهي عن ارتكابها، بما يزيل غموضها، وعلى نحو يجرد المحكمة من السلطة التقديرية التي تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص، كي تظل المصلحة الاجتماعية - في مدارجها العليا - قيدا على السلطة التشريعية تحريا للشرعية في اعماق منابتها.

وحيث أن الدستور أعلى قدر الحرية الفردية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيدا لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجزائية قد تفرض على هذه الحرية - بطريق مباشر أو غير مباشر - أخطر القيود وأبلغها أثرا. وينبغي بالتالي - وضمانا لتلك الحرية وإرساء لأبعادها التي تمليها طبيعتها - أن تكون درجة اليقين التي تكشف أحكام هذه القوانين عنها - وكقاعدة مبدئية لا تقبل الجدل - في أعلى مستوياتها، وأظهر فيها منها في غيرها. ولازم ذلك ألا يكون النص العقابي مشوبا بالغموض vague أو متميعا overbroad.

وحيث أن غموض النص العقابي يعني أن يكون مضمونه خافيا على أوساط الناس باختلافهم حول فحواه ومجال تطبيقه وحقيقة ما يرمي إليه، فلا يكون معرفا بطريقة قاطعة بالأفعال المنهي عن ارتكابها، بل مجهلا بها ومؤديا إلى إنبهامها. ومن ثم يكون إنفاذه مرتبطا بمعايير شخصية قد تخالطها الأهواء، وهي بعد معايير مرجعها إلى تقدير القائمين على تطبيقه لحقيقة محتواه وإحلال فهمهم الخاص لمقاصده محل مراميه التي غالبا ما يجاوزونها التواء بها أو تحريفا لها لينال من الأبرياء. وبوجه خاص فإن غموض النص العقابي يعوق محكمة الموضوع عن إعمال قواعد صارمة جازمة تحدد لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا لبس فيه، وهي قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطارا لعملها لا يجوز اقتحام حدوده. كذلك فإن غموض النص العقابي يحمل في ثناياه مخاطر اجتماعية لا ينبغي التهوين منها. ويقع ذلك لأن تطبيقه يكون انتقائيا منطويا على التحكم في أغلب الأحوال وأعمها، ولأن المواطنين الذين اختلط عليهم نطاق التجريم والتوت بهم مقاصد المشرع، يقعدون عادة - حذر العقوبة وتوقيا لها - عن مباشرة الأفعال التي داخلتهم شبهه تأثيمها. وإن كان القانون بمعناه العام يسوغها. بل إن الاتجاه المعاصر والمقارن في شأن النصوص العقابية يؤكد أن الأضرار المترتبة على غموضها، لا تكمن في مجرد التجهيل بالأفعال المنهي عنها، بل تعود - في تطبيقاتها - إلى عنصر أكثر خطرا وأبرز أثرا، يتمثل في افتقارها إلى الحد الأدنى من الأسس اللازمة لضبطها والتي تحول كأصل عام بين القائمين على تنفيذها وإطلاق العنان لنزواتهم أو سوء تقديراتهم.

وحيث إنه متى كان ذلك، وكان الأصل في النصوص العقابية هو أن تصاغ في حدود ضيقة Narrowly Tailored لضمان أن يكون تطبيقها محكما، فقد صار من الحتم أن يكون تميعها محظورا، ذلك أن عموم عباراتها واتساع قوالبها، قد يصرفها إلى غير الأغراض المقصودة منها، وهي تحض دوما على عرقلة حقوق كفلها الدستور أو تتخذ ذريعة للإخلال بها وفي مقدمتها حرية التعبير وحرية التنقل والحق في تكامل الشخصية وفي أن يؤمن كل فرد ضد القبض أو الاعتقال غير المشروع. ولئن جاز القول بأن تقدير العقوبة وتقرير أحوال فرضها هو مما يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يمارسها المشرع في مجال تنظيم الحقوق وفق الأسس الموضوعية التي يراها أصون لمصالح الجماعة وأحفظ لقيمها، إلا أن هذه السلطة حدها قواعد الدستور، ويندرج تحتها ألا يكون آمر التجريم فرطا. وهو ما يتحقق في كل حال كلما كان النص العقابي محملا بأكثر من معني، مرهقا بأغلال تعدد تأويلاته، مرنا متراميا على ضوء الصيغة التي افرع فيها، متغولا - من خلال انفلات عباراته - حقوقا ارساها الدستور مقتحما ضماناتها عاصفا بها حائلا دون تنفسها بغير عائق، ويتعين بالتالي أن يكون النص العقابي حادا قاطعا لا يؤذن بتداخل معانيه أو تشابكها، كي لا تنداح دائرة التجريم ، وليظل دوما في إطار الدائرة التي يكفل الدستور في نطاقها قواعد الحرية المنظمة ordered liberty.

وحيث إنه سواء كان النص العقابي غامضا أو متميعا، فإن إنبهامه أو مجاوزته لغاياته، يجمعهما التجهيل بحقيقة الأفعال المنهي عنها، وهو ما يناقض ضرورة أن تكون القيود على الحرية الشخصية التي تفرضها القوانين الجزائية محدده بصورة يقينية لا التباس فيها، ذلك أن هذه القوانين تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة وكذلك عن حرياتهم تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة. ومن ثم كان أمرا مقضيا أن تصاغ النصوص العقابية بما يحول دون انسيابها أو القياس عليها أو تباين الآراء حول مقاصدها.

وحيث أن الدستور في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة ومتابعة خطاها والتقيد بمناهجها التقدمية قد نص في المادة 66 منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره يتمثل أساسا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء في زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، لا تعزل المحكمة نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها، ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية، ولا يتصور بالتالي وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه، ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال احدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.

وحيث إن القانون الجمركي الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 قد نظم - في المادة 121 لسنه - بفقرتيها الأولى والثانية صورا مختلفة من التهريب، منها ما يعد تهريبا حقيقيا وكاملا، ومنها ما يعتبر تهريبا حكميا أجرى عليه المشرع حكم التهريب الحقيقي، فأورد في الفقرة الأولى من المادة 121 المشار إليها بيان الأحوال التي يكون فيها التهريب حقيقيا وتاما، فحصرها في ادخال البضائع من أي نوع إلى جمهورية مصر العربية أو إخراجها منها بطرق غير مشروعة بدون أداء المكوس الجمركية المستحقة عليها كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها في شأن البضائع الممنوعة. ثم أعقبتها الفقرة الثانية التي تنظم الأحوال التي لا تكون السلعة فيها قد اجتازت حدود الدائرة الجمركية، ولكنها تعامل باعتبار أن أفعالا بذواتها قد قارنتها، وأن إتصال هذه الأفعال بها، يجعل احتمال تهريبها أكثر رجحانا وأدنى إلى الوقوع، ومن ثم اختص المشرع تلك الأفعال بالتجريم، واعتبر إتيانها جريمة تهريب تامة حكما، وليس شروعا في ارتكابها، ولو لم يكن تهريب السلعة قد تم فعلا. وفي هذا الإطار جرى نص الفقرة الثانية من المادة 121 من القانون الجمركي - في اجزائها المطعون عليها - التي صاغها المشرع على النحو الآتي "ويعتبر في حكم التهريب تقديم مستندات أو فواتير مزورة أو مصطنعة أو وضع علامات كاذبة أو إخفاء البضائع أو العلامات أو ارتكاب أي فعل أخر يكون الغرض منه التخلص من الضرائب الجمركية كلها أو بعضها أو بالمخالفة للنظم المعمول بها في شأن البضاعة الممنوعة".

وحيث إن البين من الفقرة المطعون عليها أنها تواجه السلع التي لم تزل بعد وراء الحدود الخارجية للدائرة الجمركية، ولكن افعالا اتصلت بها ترجح احتمال تهريبها. وتندرج هذه الأفعال تحت فئتين: أولهما أفعال توخى المشرع بتجريمها حماية المصلحة الضريبية من خلال تأثيم كل فعل أو امتناع يلحق في هذا النطاق الضرر بالخزانة العامة أو يعرض حقوقها للخطر وبوجه خاص في مجال التحايل على الواقعة المنشئة للضريبة الجمركية التي تستحق على البضاعة موضوعها أو مخالفة النظم المعمول بها لتحديد وعائها أو لضمان تحصيلها. وقد حدد المشرع هذه الأفعال من خلال الغرض المقصود منها، فكلما كان ارتكابها مستهدفا التخلص من الضريبة الجمركية كلها أو بعضها، دل ذلك على وقوع مرتكبها في دائرة التجريم. ثانيهما أفعال تغيا المشرع بتجريمها حماية المصلحة الاقتصادية للدولة في غير مجالاتها الضريبية، وبوجه خاص في مجال حماية الصناعة الوطنية وتأمين انتعاشها وقد حدد المشرع هذه الأفعال كذلك بالنظر إلى مراميها، ذلك أن مرتكبها يؤاخذ عنها قانونا كلما سعى بمقارفتها إلى مخالفة النظم المعمول بها في شأن السلع الممنوع استيرادها أو استيرادها.

وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت النظرة الغائية هي الجامعة بين هاتين الفئتين من الأفعال، وكان القانون الجمركي قد توخى صون المصلحة الكامنة وراء كل منهما، فإن من المنطقي أن يؤمن المشرع الحقوق المرتبطة بكلتيهما من خلال تجريم الأفعال التي تخل بها سواء اقترن إتيان هذه الأفعال بطرق احتيالية أم تجرد منها، وسواء بلغ المخاطبون بالنص المطعون فيه الأغراض المنافية للقانون التي يلتمسونها أم حالت دونها عوائق الرقابة الجمركية وحواجزها.

وحيث إن قاله التجهيل بالأفعال المعاقب عليها وفقا للفقرة المطعون عليها لا محل لها، ذلك أن الأفعال التي انتظمتها هذه الفقرة محددة بطريقة واضحة لا التواء فيها وهي قاطعة في اتجاهها مباشرة إلى الأغراض التي توختها لتأمين المصلحة المقصودة بالحماية. وقد ارتبط تأثيم الفئة الثانية من الأفعال التي نهت تلك الفقرة عن ارتكابها، بالنظم المعمول بها في شأن البضائع الممنوع استيرادها أو تصديرها، وهي نظم قائمة لم يمتد الطعن الماثل اليها أو يتناولها بالتجريح. أما الفئة الأولى من الأفعال التي أثمها المشرع وهي تلك التي ترمي إلى العدوان على محض المصلحة الضريبية فقد دل الواقع العملي على صعوبة حصرها وإيرادها واحدا واحدا، ذلك أن الطرق والوسائل التي يبتدعها المكلفون بأداء الضريبة الجمركية بقصد التخلص منها، يتعذر رصدها أو احصاؤها أو توقعها، وهي تتنوع في صورها تبعا لتطور العلوم التي تحمل معها ألوانا جديده من المعرفة كان التنبؤ بها أو الإرهاص باحتمالاتها بعيدا. ولم يكن أمام المشرع من خيار في مجال تحديد الأفعال المنهي عنها، إلا أن يبينها من خلال ضابط عام لا يجهل بمضمونها أو يثير اللبس حول حقيقتها، بل يحدد محتواها بالرجوع إلى مرماها أو الغرض المقصود منها، جاعلا بذلك مناط تجريمها ارتكابها بقصد التخلص من الضريبة الجمركية المقررة على البضاعة التي يراد تهريبها. وقد أورد القانون الجمركي - من خلال النص المطعون عليه - صورا من الأفعال التي تدخل في إطار هذا المعيار العام وتعتبر من تطبيقاته، ومن ذلك تزوير الجاني لأوراق أو اصطناعها في شأن البضائع موضوعها، أو وضع علامات كاذبة عليها أو محاولة اخفائها توقيا لأداء الضريبة الجمركية المقررة عليها. بيد أن هذه الأفعال جميعها وإن اختصها القانون الجمركي بالبيان، إلا أنها لا تختلف في غاياتها عن تلك التي ترمي إلى التخلص من الضريبة الجمركية بوجه آخر. وإفراغ النص المطعون فيه على هذا النحو تعريفا بالأفعال التي جرمها، لا يعدو أن يكون تبنيا للقوالب الفنية للصياغة التي يلجأ فيها المشرع إلى التعميم بعد التخصيص. كذلك فإن اعتداد القانون الجمركي بضابط عام يكون كاشفا عن ماهيه الأفعال التي حظرها ومحددا لمضمونها، لا ابتداع فيه، وليس أمرا فريدا أو دخيلا، ذلك أن القانون الجنائي وهو الشريعة العامة التي تنتظم الجرائم وتحدد عقوباتها كثيرا ما يعتمد هذا المنحى في التأثيم، ودليل ذلك أن جريمة استيلاء الموظف العام على الأموال العامة، وفقا لنص المادة 113 من قانون العقوبات تتحقق بأي فعل يأتيه الجاني لانتزاع حيازتها بقصد تملكها بغير حق وبأية وسيلة يراها مؤدية إلى الحصول عليها. كذلك تقع جريمة القتل المنصوص عليها في المادة 23 منه بكافة صور الاعتداء على حق الإنسان في الحياة - وهو حق متأصل فيه - وذلك كلما كان القصد منها إزهاق الروح.

وحيث إنه متى كان ذلك، وكان بيان الأفعال التي عينها النص التشريعي المطعون فيه على النحو المتقدم لا يناهض أحكام الدستور الذي خول السلطة التشريعية في مجال تنظيمها للحقوق - وبما لا اخلال فيه بالمصلحة العامة - أن تحدد وفق اسس موضوعية ومن خلال النظم العقابية التي تقرها، أركان كل جريمة دون أن يفرض عليها طرائق بذاتها لضبطها تعريفا بها، ودون إخلال بضرورة أن تكون الأفعال التي جرمتها هذه النظم قاطعة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، فلا يشوبها الغموض أو تتداخل معها أفعال مشروعة يحميها الدستور، وكان من المقرر أن القوانين الجنائية لا تتناول إلا صور النشاط المحددة معالمها الواضحة حدودها والتي يمكن ربطها بمضار اجتماعية، وكان القانون الجزائي معني بالأفعال الخارجية التي تناقض المصلحة المقصودة بالحماية أو التي يمكن أن تضر بها، وكان الركن المادي لكل جريمة يعكس التعبير الخارجي عن إرادة مرتكبها باعتبارها إرادة واعية مختارة يسيطر الفاعل من خلالها على ظروف مادية معينة ابتغاء بلوغ نتيجة إجرامية تتمثل في الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون، وكانت إرادة إتيان الأفعال محل التنظيم التشريعي الماثل مع العلم بالوقائع التي تعطيها دلالتها الإجرامية هي التي يتوافر بها القصد الجنائي العام، فإن التنظيم العقابي المطعون عليه - وقد تحقق في الجريمة التي نص عليها ركناها المادي والمعنوي معا - لا يكون مخالفا للدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعي المصروفات ومائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

 

 

العودة للصفحة الرئيسية