الأوراق الفيدرالية

ورقة رقم: 37
جيمس مادسون
James Madison
11 يناير، 1788


إلى أهالي ولاية نيويورك:
عند مراجعة نقائص الدستور وتبين أن تلك النقائص لا يمكن تلافيها على يد حكومة تكون أقل قدرة من تلك المطروح بحثها الآن للمواطنين، فإن عدة مبادئ مهمة جداً من المعروضة للبحث تتساقط في الطريق بعد إعمال الفكر فيها. إلا أنه لما كان الهدف الأقصى من هذه الورقات هو أن تحدد بوضوح وبصورة وافية حسنات الدستور، وضرورة تبنيه، فإن خطتنا لا تكون مكتملة دون إجراء مسح دقيق وشامل لعمل الميثاق، مع مناقشته من جميع الجوانب، ومقارنته في جميع أجزائه، وحساب النتائج التي يمكن أن يتمخض عنها. وأنا أرى أن إنجاز هذه المهمة المتبقية أمر يمكن بلوغه في ظل انطباعات تقود إلى نتيجة فيها إنصاف، غير أن بعض الأفكار تفرض أن تذكر في هذا الموضع، وهي انعكاسات أشارت إليها الطيبة وحسن النية من قبل.
إن من سوء الحظ الملازم للبشر أن القوانين والمعايير العامة عند الناس نادراً ما يتم تفحصها بروح الاعتدال، مع أن ذلك شرط أساسي للوصول إلى حكم منصف من قبلهم حول ما إذا كانت تلك القوانين تحفز المصلحة العامة قدماً أو تعيق التقدم فيها. كذلك من سوء الحظ أن هذه الروح عرضة لأن تتضاءل أكثر منها لأن ترتقي وتتزايد إذا ما واجهت ظروفاً تتطلب قدراً أكبر من العادي في حال ممارستها وتطبيقها. فإلى أولئك الذين قادتهم التجربة والخبرة فتوصلوا إلى هذا الاعتبار، لن يكون مما يثير الدهشة في نفوسهم أن وضع الميثاق، والذي يدعو إلى إحداث تغييرات كثيرة وبدع قد تختلف وجهات النظر فيها في أضواء اعتبارات مختلفة وعلاقات متعددة، تلامس منابع الإحساس والمشاعر والمصالح – أن يجدوا وأن يثيروا اتجاهات غير ودية، من هذه الجهة أو تلك، تجاه مناقشة عادلة وحكم سليم ودقيق لحسناته. ففي بعض وجهات النظر التي عرضوها كان واضحاً مما أعلنوه أنهم قد شرحوا الدستور المقترح بصورة وافية، لا بنية مسبقة لنقده، بل بتصميم حازم على إدانته؛ إذ أن العبارات المستعملة من جانبهم تفشي تصميماً مسبقاً أو تحيزاً لابد أن يجعل آراءهم ذات أهمية غير كبيرة في القضية. ولو رتبت هؤلاء الأفراد على أساس وزن آرائهم لما رغبت في إثارة أنني لا أجد فارقاً محسوساً في صفاء نواياهم. لكنه من الإنصاف أن أشير، ولصالح توصيفهم الأخير، أنه مادام وضعنا متفقاً عليه عالمياً أنه وضع شاذ محرج، وأنه يفرض أن يتم عمل شئ ما لإنقاذنا من هذا الوضع، فإن من رعى سلفاً ما تم إنجازه فعلاً قد أخذ انحيازه من أهمية الاعتبارات التي ذكرتها، كما أخذه من الاعتبارات النابعة من طبيعة شريرة أيضاً. فالمعارض مسبقاً لا يمكن إلا أن يكون تحت تأثير أي دافع شرير مهما كان. ولربما كانت نوايا الأول سليمة، فلا يجوز استنكارها. أما آراء الفريق الثاني فلا يمكن أن تكون سليمة، فالواجب رفضها. والحقيقة هي أن هذه الورقات ليست موجهة إلى أشخاص من أي من تلكما الفئتين. إنها ورقات تسعى إلى إشباع اهتمام الأفراد الذين يرغبون في أن يزيدوا من حماستهم الصادقة لإسعاد بلدهم، وهو مزاج يرجح لدىّ تقديراً فيه إنصاف للوسيلة التي تنمّي ذلك الإسعاد.
إن الأشخاص الذين هم من هذا القبيل سوف يسعون إلى تفحّص الخطة التي يعرضها الميثاق، لا بنية العثور على الأخطاء أو تضخيمها، بل لبيان أن خطة لا خطأ البتة فيها هي أمر غير متوقع ولا مأمول فيه من جانبهم. ولن يتجاوز مثل أولئك الأفراد عن أخطاء يمكن إرجاعها إلى طبيعة الوقوع في الخطأ التي يتعرض لها المؤتمرون بصفتهم مجموعة من البشر، بل سوف يفطنون إلى أنهم هم أنفسهم ليسوا إلا بشراً فعليهم ألا يزعموا المعصومية حين يحاكمون الآراء الخاطئة لدى غيرهم.
وهم سيتقبلون بنفس القدر ويدركون أنه على جانب حسن النية المتوفرة فإن هنالك مواطن أخرى للسماح يجب التغاضي عنها تسبّبها العوائق الملازمة لطبيعة القيام ذاته بالإعداد للميثاق.
إن جدة مهمة القيام بذلك تكاد تصعقنا. وقد بينا في مساق هذه الورقات أن الكونفدرالية الحالية تقوم على مبادئ غير معصومة، وأنه من ثم علينا أن نغّير هذا الأساس، كما نغيّر البنية المستقرة عليه. كذلك بينا أن الكونفدراليات الأخرى التي يمكن الاسترشاد بها كسوابق إنما أقيمت بدورها على المبادئ الخطأ نفسها، ومن ثم فهي أعجز من أن تزودنا بنور أكثر من منارات التحذير التي ترشد إلى ما يجب تجنبه دون التوجيه إلى ما يجب فعله. أن أكثر ما يستطيعه المؤتمر في مثل هذا الوضع هو أن يتحاشى الأخطاء التي دلت عليها الممارسات السابقة في الأقطار الأخرى ويتجنب أخطاءنا نحن، وأن يوفر أسلوباً مناسباً في تبصّر غلطاتهم حين تكشف عنها التجربة اللاحقة.
وبين العقبات التي اعترضت المؤتمر، بل هي عقبة عظيمة الأهمية كان يتوجب على المرء أن يقرنها إلى جانب الاستقرار الضروري والفعالية في الحكم – هي القصد الجازم في الاهتمام بالحرية والنظام الجمهوري. وبدون إنجاز هذه المهمة بصورة ملموسة، كان المكلفون بالمهمة سيجدون أنفسهم مضطرين إلى إنجاز ظاهر النقص في بلوغ الهدف المعهود إليهم بلوغه، أو في الوفاء بتوقعات المواطنين؛ وإن كان القول بأنه أمر يعسر إنجازه بسهولة، حقيقة لا يستطيع أن ينكرها أي امرئ لا يود أن يكشف عن جهله التام بالموضوع. إن الفعالية في الحكم سمة ضرورية لضمان الأمان من الخطر الخارجي والخطر الداخلي على السواء، ولضمان تنفيذ القوانين بحزم، والقوانين هي جزأ لا يتجزأ من الحكم الجيد. إن الاستقرار للحكومة أمر ضروري لطبيعتها الوطنية، وللمزايا الطيبة المرافقة له، كما أنه ضروري للارتياح والاطمئنان في نفوس المواطنين، وهاتان نعمتان كبريتان في المجتمع. إن تشريعاً غير منتظم ولا أصيل ليس شراً أقل ضرراً في ذاته منه مقتاً ونفوراً من المواطنين. ويمكن التصريح بكل جزم أن أهل هذه البلاد، بحكم عظيم اهتمامهم وتنورهم، كالأكثرية فيهم، عن طبيعة حسنات الحكومة الجيدة – لن يرضوا أبداً حتى يتم تقديم علاج مقبول للتقلبات والشكوك التي تتصف بها حكومات الولايات. ولو قارنا هذه العناصر القيمة بالمبادئ الهامة التي تفرضها الحرية لأدركنا على الفور الصعوبة في الجمع بينهما معاً بأقدار مناسبة. إن عبقرية الحرية في النظام الجمهوري تتطلب أن تكون السلطة كاملة نابعة من الشعب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي تتطلب أن يظل أولئك الذين يُعهد بها إليهم في حاجة دائمة إلى الشعب، عن طريق تحديد مدة بقائهم في مراكزهم، وكونهم حتى في أثناء تمتعهم بالمنصب يقبلون أن يوضع العهد بالحكم لا في أيدي نفر قليل منهم بل في يد عدد كبير. وهذا بعكس الاستقرار، فهو يتطلب أن يستمر عمل الأيدي التي يُعهد إليها بالسلطة طيلة فترة ذلك العهد نفسها. إذ أن تكرار التغيير في أولئك الأشخاص إنما ينتج عن تكرار في إجراء الانتخابات؛ ويخلق تغييراً متكرراً في القوانين جراء تغير في الأشخاص؛ هذا فيما أن فعالية الحكم لا تفرض مدة محددة في السلطة فحسب، وإنما تفرض تنفيذ تلك الفعالية من قبل يد بمفردها أيضاً.
إلى أي حد كان يمكن أن ينجح المؤتمر في هذا الجانب من العمل؟ ذاك أمر سوف يبرز بصورة أوضح عند النظر إلى ذلك العمل بدقة. ومن وجهة النظر التي أخذنا بها هنا لابد أن يظهر أن النجاح كان عظيماً.
ما كان ليكون القيام بمهمة وضع الحد المناسب للتفريق ما بين السلطة العامة وبين سلطة حكومات الولايات أقل أهمية مما هو. إن كل فرد يدرك هذه الصعوبة بقدر تعوده على التأمل والتمييز في مقدار شمول الموضوعات المبحوثة وتعقيدها بحكم طبيعتها. إذ أن قدرات العقل البشري ذاته لم يتم التمييز فيما بينها بوضوح أبداً، ولا تحديدها بتوصيف مقنع حتى من جانب جميع الجهود التي بذلها أحذق الناس بما فيهم الفلاسفة الميتافيزيقيون. فلقد وُجد أن العقل والإدراك، والحكم، والرغبة، والاختيار، والذاكرة، وقوة التخيل – يفترق واحدها عن الآخر بفوارق رقيقة وتدرجات دقيقة حتى إن الحدود فيما بينها قد ضلّلت أدق الباحثين، وستظل مصدراً مليئاً بعناصر التناقض والإشكالية. إن الحدود الفارقة في مملكة الطبيعة الهائلة، بل حتى بين الأقسام العديدة والأجزاء المتفرعة منها التي تتوزع عليها تيسّر توضيحاً آخر للحقيقة الهامة المشار إليها. ذلك أن أعظم أصحاب العقول الحكيمة والطبيعيين الجادّين لم ينجحوا حتى الآن في أن يصلوا بقدر من اليقين إلى ذلك الخط الذي يفصل بين منطقة الحياة النباتية، وبين المنطقة المجاورة للمادة غير المنظمة، أو الخط الفاصل ما بين نهاية عالم النبات وبداية إمبراطورية عالم الحيوان. وهناك غموض أكبر يقوم في التمييز ما بين الصفات التي تم تنظيم أفراد كل من هذه الأقسام الكبرى في الطبيعة بموجبها، وتم تصنيفها على أساسها.
وإذا جاوزنا أفعال الطبيعة، حيث تكون جميع الانحرافات مضبوطة وإن بدت غير ذلك جراء عيب في العين الناظرة إليها، ودخلنا إلى تركيبات الإنسان، حيث ينشأ الغموض من الشئ نفسه قدر ما ينشأ من العضو الذي يتأمله ويفكر فيه – تبدّت لنا بكل تأكيد ضرورة الاعتدال، بقدر أكبر، في توقعاتنا وآمالنا وما ننتظره من حكمة الإنسان وتعقله. لقد علّمتنا التجربة أنه لا مهارة في علم إدارة الحكم قد استطاعت حتى هذه الساعة، لا التمييز ولا التحديد بجزم كاف، ما بين مجالاتها الكبرى الثلاثة التشريع، والتنفيذ، والقضاء، بل حتى ما بين امتيازات وصلاحيات فروع التشريع المختلفة. فما زالت التساؤلات تبرز كل يوم في أثناء التطبيق. ومن شأنها أن تؤكد الغموض الذي يسود في هذه المواضيع، والذي يحيّر أقدر العقول في علم السياسة.
إن تجارب العصور السالفة مضافة إلى الجهود المضنية التي بذلها أكفأ المشرعين وفقهاء القضاة ظلت بدورها غير ناجحة، وبنفس القدر، في وضع حدود للموضوعات المتعددة، وحدود نهائية لدساتير القوانين والفروع الصغيرة الأخرى للعدالة. ولا يزال المدى الدقيق الذي يمتد إليه القانون العام، والقانون الخاص، والقانون البحري، والقانون الكنسي، وقانون الشركات، والقوانين المحلية الأخرى، والجمارك – لا يزال حتى الآن في حاجة إلى الوضع والتوضيح الكافي في دولة بريطانيا العظمى، حيث الدقة والضبط في مثل هذه الموضوعات أمور قد تم الاهتمام بها بكل جد أكثر مما حصل في أي طرف آخر من العالم. وهكذا نجد الأحكام الصادرة عن المحاكم المختلفة فيها، العامة والخاصة، فيما يتعلق بالقانون، والإنصاف، والادميرالية... الخ ليست مواطن أقل قدراً للمناقشة وتكرار البحث في المداولات. وهذه إشارة جلية إلى الحدود غير المحددة بدقة التي تكتنفها جميعاً واحدة بعد الأخرى. والواقع أن جميع القوانين الجديدة، وإن تم وضعها بأكبر قدر من التقنية والكفاءة، وإمضاؤها بعد المناقشات الرصينة اليقظة – لا تزال تعتبر غامضة بدرجة أو أخرى، وخاضعة للفظ الصريح، إلى أن يتم توضيح معناها وتثبتها من خلال مداولات خاصة وفقه قانوني خاص. وإضافة إلى الغموض الناشئ من تشابك الموضوعات والنقص في القدرات العقلية للإنسان، فإن الوسط الذي عن طريقه تنقل مدارك الإنسان، من الفرد إلى الآخر، يخلق بدوره عقبة جديدة. إن فائدة الألفاظ هي أن تعبر عن الأفكار. إذن فإن الدقة من ثم لا تقتضي أن تكون الأفكار قد سبق أن تشكلت بوضوح فحسب بل أيضاً أن يتم التعبير عنها بألفاظ مناسبة تماماً لها وشاملة لأبعادها. بيد أنه ليس هناك لغة على قدر من الشمول بحيث تكفي لتزويد الناطق بها بالألفاظ والعبارات لكل فكرة معقدة، ولا لغة دقيقة مضبوطة لتحتوي جميع الأفكار المتضمنة المختلفة. لذا، فإنه لابد أن يحصل أنه مهما كان الاختلاف بين الأشياء قائماً ويمكن تمييزه، ومهما يكن قدر الدقة في التمييز، متوفراً، فإن توصيف الأشياء عن طريق تحديدها يظل خاضعاً لأن يكون غير دقيق، وذلك بفعل عدم دقة الألفاظ التي تم إيصالها عن طريقها. ويجب أن تكون عدم الدقة هذه، والتي لا يمكن التخلص منها، أكبر أو أصغر، تبعاً لتعقيد الأشياء التي يراد تحديدها، وبحسب جدّتها أيضاً. وحين يتكرم الله القدير بتوجيه الخطاب إلى البشر بلغتهم، فإن معناه، مهما كان مشرقاً، يغدو معتماً ومشكوكاً في القصد منه، بحكم العيب في الوسط الذي ينقله.
هنا، إذن، ثلاثة مصادر للتحديات غير الجلّية وغير الدقيقة: عدم وضوح وتميز الشئ عن غيره، عدم الكمال في العضو الذي أدركه، وعدم الملاءمة في آلية نقل الأفكار. ومن شأن أي من هذه أن ينشأ عنه قدر من الغموض. وعلينا أن نتذكر أن الميثاق حين وضع معالم وخطوطاً في الحدود ما بين التشريع الفدرالي والتشريع في الولاية، لابد أنه خبر تأثير كل من هذه المصادر.
وعلاوة عن الصعوبات المذكورة آنفاً يمكن للمرء أن يضيف إليها تشابك ادعاءات الولايات الصغيرة والأخرى الكبيرة. ونحن لن نقترف خطأ إذا افترضنا أن الولايات الكبيرة سوف تتنافس في الحصول على مشاركة في إدارة الحكم تكون متناسبة مع ثرواتها الأضخم، وأهميتها الأعظم من غيرها. هذا فيما أن الولايات الصغيرة لن تكون أقل احتداداً في طلب المساواة القائمة التي تتمتع بها في الوقت الحاضر. كذلك لنا أن نفرض أن أياً من الفئتين لن تلين الأخرى، وبالتالي فإن الصراع إذ ذاك إنما يمكن وضع حد له عن طريق المصالحة والائتلاف. ومن المحتمل تماماً، أيضاًُ، بعد أن حصل تعديل في نسبة التمثيل، إن هذه المصالحة ذاتها قد خلقت صراعاً جديداً بين الفئتين ذاتهما فخلقت هذا الانعطاف في تنظيم الحكم وفي توزيع السلطات بحيث تزيد أهمية الفروع في التشكيل، وهو أمر حصلت بموجبه على النصيب الأوفر من النفوذ. هناك معالم في هذا الدستور تؤيد كلاً من هذه الفرضيات، وبقدر صحة أي منها، فإنها تبين أن المؤتمر قد اضطر إلى أن يضحي باللياقة النظرية لصالح ضغط الاعتبارات الجانبية الأخرى.
هذا وليست الولايات الكبيرة والصغيرة وحدها هي التي اصطفت الفئة منها ضد الأخرى في نقاط عدة. فلقد نشأت تجمعات أخرى بفعل الاختلاف في المركز المحلي والسياسة المحلية، ولا بد أنها خلقت صعوبات إضافية أخرى عند ذاك. إذ لما كان يجب أن تنقسم كل ولاية إلى دوائر مختلفة، وينقسم المواطنون فيها إلى طبقات مختلفة تنشأ عنها مصالح متقاربة ومشاعر بالغيرة المحلية، كذلك فإن الأجزاء المختلفة من الولايات المتحدة يتميز الواحد منها عن الآخر بظروف شتى، من شأنها أن تولّد آثاراً كبيرة على النطاق العام. ومع أن هذا التنوع في المصالح، ولأسباب أوضحتها الورقة السابقة، قد يترك أثراً كبيراً على إدارة الحكم حين يتم تشكيلها، فإن على المرء أن يحسب حساب الأثر العكسي الذي لابد أنه قد جوبه عند عناء تأليف تلك الإدارة.
أليس مما يثير الدهشة، تحت ضغط هذه العقبات، أن يكون المؤتمر قد اضطر قسراً إلى الانحراف عن الهيكلية الأصيلة والتماثل المنتظم الذي تدفع إليه النظرة التجريدية إلى الموضوع وتجبر المنظر العبقري أن يخلعه على دستور تم وضعه في مكتب ذلك الرجل أو في مخيلته؟ إن العجب الحقيقي أنه قد تم التغلب على هذه العقبات العديدة، وتم قهرها بإجماع لم يسبق له مثيل، كما كان غير متوقع بالتأكيد. فمن المستحيل على أي شخص ذي رويّة أن ينظر في هذا الظرف الفعلي دون أن يشارك في الاندهاش والذهول. فمن المستحيل على شخص ذي نظرة متدينة ألا يلحظ في ذلك شيئاً من تدخل العليّ القدير وألاّ يرى أن يده امتدت إلينا أكثر من مرة وأومأت بإنقاذنا في المراحل الحرجة من الثورة.
لقد انتهزنا الفرصة في ورقة سابقة فأشرنا إلى المحاولات المتكررة وغير الموفقة التي قام بها أهل اتحاد الأراضي الواطئة لإصلاح دستورهم المقيت وتلافي عيوبه. وتاريخ معظم المجالس العظيمة والمشاورات التي أجريت بين بني البشر للتوفيق ما بين آراء الناس غير المنسجمة، وتلطيف حدة الغيرة المتبادلة فيما بينهم، وتعديل مصالحهم الدورية – هو تاريخ الانقسامات، والصراعات، وخيبات الأمل، وتاريخ يمكن تصنيفه ضمن أشد الصور سواداً وانحطاطاً التي تعرض نفسها في جوانب الخور والفسوق في طبيعة الإنسان. نعم، يمكن عرض جانب مشرق من تلك الطبيعة في أمثلة معدودة، لكنها لا تخدم إلا بصفتها استثناءات نقدمها لإراحتنا من الحقيقة العامة؛ وبفضل لمعانها تخدم في تسويد عتمة الأفق النقيض الذي يشكل الخلفية لها. وعند تقرير الأسباب التي نشأت عنها هذه الاستثناءات، وتطبيق تلك الأسباب على الأمثلة المعنية التي أمامنا – نغدو مناقدين بحكم الضرورة، إلى أن نتوصل إلى استنتاجين اثنين. أولهما أن المؤتمر قد تمتع، وبدرجة كبيرة، بالخلاص من النفوذ الوبائي للعداءات الحزبية – وهو الداء المرفق أكثر من غيره لمجالس المداولات، والأكثر قدرة من غيره على تلويث مسالكها. والاستنتاج الثاني هو أن جميع التفويضات التي تشكل منها المؤتمر كانت إما مرضية مقنعة ووفق عليها آخر الأمر في لائحة المؤتمر النهائية أو دُفع إلى اللجوء إليها انطلاقاً من إيمان عميق بضرورة تضحية الآراء الفردية والمصالح الجزئية لمصالح الخير العام، وبفعل القنوط التام من رؤية هذه الضرورة تتضاءل إما عن طريق التأخير أو من خلال إجراء تجارب جديدة بشأنها.
بوبليوس

_______________________
- الأوراق الفيدالية/الكسندر هاملتون، جميس ماديسون، وجون جاي؛ ترجمة عمران أبو حجلة، مراجعة أحمد ظاهر- عمان: دار الفارس للنشر والتوزيع، 1996. ص 255-263.

العودة للصفحة الرئيسية